ذهاب العلم بذهاب العلماء، بقلم:
عبد الرزاق العباد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام المرسلين ، نبينا محمد
وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
فلا يخفى على كل مسلم مكانة العلماء ورفعة شأنهم وعلو منزلتهم وسمو قدرهم
، إذ هم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ، ويقتدى بأفعالهم ، وينتهى إلى
رأيهم ، تضع الملائكة أجنحتها خضعانا لقولهم ، ويستغفر لهم كل رطب ويابس
حتى الحيتان في الماء ، بلغ بهم علمهم منازل الأخيار ، ودرجات المتقين
الأبرار ، فسمت به منزلتهم ، وعلت مكانتهم ، وعظم شأنهم وقدرهم ، كما قال
اهله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات
والله بما تعملون خبير ) (المجادلة:11) وقال تعالى : (قل هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) (الزمر:9) .
ولهذا فإن فقدهم خسارة فادحة ، وموتهم مصيبة عظيمة ، لأنهم نور البلاد ،
وهداة العباد ، ومنار السبيل ، فقبضهم قبض للعلم ، إذ أن ذهاب العلم يكون
بذهاب رجاله وحملته وحفاظه ، ففي الصحيحين عن عبد اهلا بن عمرو بن العاص
رضي اهلذ عنهما قال : سمعت رسول اله -صلى الله عليه وسلم- يقول : " إن
اهلل لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض
العلماء " .
ولهذا لما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال ابن عباس -رضي الله عنهما- :
" من سره أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه " أي : أن ذهابه إنما يكون
بذهاب أهله وحملته .
وقال عبد اهلب بن مسعود -ره عنه - : " عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه
ذهاب أهله " .
ولهذا كان موت العالم يعد خسارة فادحة ، ونقصاً كبيراً ، وثلمة في
الإسلام لا تسد ، كما قال الحسن البصري -رحمه اهلذ- : " موت العالم ثلمة
في الإسلام لا يسدها شيء ما اطرد الليل والنهار " .
ولقد بليت أمة الإسلام في الأشهر الأخيرة بفقد عدد من علمائها الأخيار ،
ومصلحيها الأبرار ، ممن لهم في العلم قدم راسخة ، ومكانة عالية ، وجد
واجتهاد ، وبذل وعطاء ، عبر عمر مديد ، وحياة حافلة بالجود والسخاء .
وآخر ما وقع من ذلك ما كان في عصر يوم السبت الموافق للثاني والعشرين من
شهر جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة وألف للهجرة ، حيث فقدت الأمة
عالمها الجليل ، ومحدثها الشهير العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
-رحمه اهلف تعالى- .
ذلكم العالم الجليل ، الذي نذر حياته ، وبذل أوقاته في سبيل خدمة حديث
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، والنصح لسنته ، وتأتي هذه الفاجعة
الكبيرة بفقده بعد قرابة خمسة أشهر من فجيعة العالم الإسلامي بفقد شيخ
الإسلام والمسلمين سماحة العلامة المجدد الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه
الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته- .
ولقد قال العلامة الألباني -رحمه الله- عندما بلغه نبأ وفاة سماحة الشيخ
عبد العزيز بن باز : " إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل
مسمى ، ونسأل الله عز وجل أن يجعله في العليين مع الأنبياء والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، ونسأله عز وجل أن يخلف من بعده
من هو خير منه في خدمة الإسلام والمسلمين ، واهلا المستعان ولا حول ولا
قوة إلا بالله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي
واخلف لي خيراً منها " وتألم كثيراً لفقده وحزن لفراقه ودمعت من ذلك
عيناه .
وكانت تجمعه به -رحمهما اهلة- محبة عميقة ، وصلة وثيقة ، ورحم مبارك ألا
وهو رحم العلم إذ روي عن السلف " أن العلم رحم بين أهله " وكان كل واحد
منهم كثير الثناء على الآخر والإشادة بمناقبه وفضائله ، قال الشيخ
العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه اهلا- : " إن الشيخ -أي الألباني- معروف
لدينا بحسن العقيدة والسيرة ومواصلة الدعوة إلى الله سبحانه ، مع ما
يبذله من الجهود المشكورة في العناية بالحديث الشريف وبيان الحديث الصحيح
من الضعيف والموضوع ، وماكتبه في ذلك من الكتابات الواسعة ، كله عمل
مشكور ونافع للمسلمين ، نسأل اهل أن يضاعف مثوبته ، ويعينه على مواصلة
السير في هذا السبيل الطيب ، وأن يكلل جهوده بالتوفيق والنجاح " ا.هـ .
وقد كان -رحمه الله- يتمتع بصفات جليلة وخصال كريمة ، منها غيرته على
السنة النبوية ، وحرصه على نشرها ، وتمسكه الشديد بها ، وعنايته بالتوحيد
وتعليمه ونشره ، وتحذيره من الشرك والبدع ، في همة عالية ، ونشاط متواصل
، وعطاء مستمر .
وقد كان له -رحمه اهلل- مؤلفات عظيمة وتحقيقات نافعة ، تربو على المائة
كانت ولاتزال محل اهتمام طلاب العلم وموضع عنايتهم ، يكثرون من الرجوع
إليها والإفادة منها ، وكانت جهوده -رحمه الله- محل تقدير الجميع ، ولذا
قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية منحه
الجائزة عام 1419 هـ وموضوعها " الجهود العلمية التي عنيت بالحديث النبوي
تحقيقاً وتخريجاً ودراسة " وتقديراً لجهوده القيمة في خدمة الحديث النبوي
الشريف .
ثم إن من محبته -رحمه اهلب- للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ووفائه
لها وتقديره للجهود التي تبذل فيها في سبيل نشر العقيدة وبيان السنة فقد
أوصى -رحمه اهل - بأن تودع مكتبته بما فيها من مخطوطات ومطبوعات في مكتبة
الجامعة الإسلامية ، فنسأل الهب أن يتقبل منه ذلك وأن يجزيه خير الجزاء .
هذا ولقد كان لنبأ فقده -رحمه اهله- وقع كبير على قلوب العلماء وطلاب
العلم وعلى المسلمين بعامة في أنحاء المعمورة ، وما من ريب أن فقده -رحمه
الله- يعد مصيبة عظيمة وحادثاً جللاً تحزن له القلوب وتتألم منه النفوس ،
والحمد لله على قضائه وقدره و ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) .
ونسأل الله الكريم أن يتغمد الفقيد برحمته ، ويسكنه فسيح جناته ، ويجزيه
عن المسلمين خير الجزاء ، كما نسأله سبحانه أن يأجر المسلمين في مصيبتهم
هذه وأن يخلفهم خيراً ، إنه جواد كريم رؤوف رحيم ، وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين .
المصدر: مجلة الدعوة (1715/55).