رحيل ريحانة الشام ومفيد الأنام
الشيخ الإمام محمد ناصر الدين الألباني، بقلم: سعد بن عبد الله البريك
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل أشرف المرسلين أما بعد :
إن المصائب وإن تساوت في الحزن والأسى ، واشتركت في الألم والكمد إلا أن
من أعظمها وقعاً ، وأشدها خطباًً ، وأكثرها ألماً ، موت العلماء وفقد
الفقهاء ، فإن فقدهم ثلمة في الإسلام لا تسد ، وجرح في النفوس لا يضمد ،
روي عن ابن مسعود أنه قال : " موت العالم ثلمة في الإسلام ، لا يسدها شيء
ما اختلف الليل والنهار " .
فكيف يكون الأمر إذا أصيبت الأمة الإسلامية في كبار علمائها وأعظم أئمتها
وأبرز دعاتها ؟! لا شك أنها فاجعة عظيمة ، ومصيبة أليمة ، ومحنة كبيرة .
لم يمض على مصاب الأمة الإسلامية في فقدها إمام أهل السنة والجماعة الشيخ
العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه اهلل تعالى- أربعة أشهر حتى فجعت مرة
أخرى ، وأصيبت بخسارة كبرى ، ونزل عليها الخبر كالصاعقة . . . إنه رحيل
الإمام ، ريحانة بلاد الشام ، ومفيد الأنام ، أبي عبد الرحمن محمد ناصر
الدين والسنة الألباني تغمده الله برحمته ، وطيب ثراه وقدس روحه ، علم
السنة ومحدث الأمة ، ونادرة العصر ، وذو التصانيف الباهرة والذكاء المفرط
، أمير المؤمنين في الحديث في هذا العصر ، شيخ الإسلام ، مجدد السنة في
هذه الأمة ، كرس حياته وسخر نفسه في خدمة هذا الدين ، فقضى أكثر من نصف
قرن في خدمة الحديث النبوي تصحيحاً وتضعيفاً وتعليلاً وجرحاً وتعديلاً ،
وتخرج عليه كثير من الباحثين من المحققين وغيرهم عن طريق مؤلفاته
وتصانيفه ، فما من طالب علم وحديث إلا وللشيخ الألباني -رحمه اهلا- عليه
منة في هذا العصر ، بحيث لا يستطيع أن يستغني عن تحقيقاته وكتبه أحد من
طلاب العلم ، وصارت كتب الشيخ وتحقيقاته في مدرسة قائمة بذاتها يستفاد
منها ويربى عليها الطلاب ، إن الإمام الألباني أحد العلماء والأئمة الذين
سخرهم الله تعالى لهذه الأمة في هذا العصر لتجديد ما اندرس من معالم
دينها وإحياء ما أميت من سنن رسولها -صلى الله عليه وسلم- ، فكم من سنة
أحياها ، وكم من بدعة أماتها ، فهو بحق مجدد هذا الدين .
لقد حمل هم الدعوة إلى اهلة منذ طلبه للعلم والحديث ، فلم يزل يدعو إلى
السنة والعقيدة السلفية ، ويرد على المبتدعة وأهل الأهواء من أعداء السنة
والعقيدة السلفية ، سواء بدروسه ومحاضراته وأجوبته عن طريق الهاتف أو عن
طريق مؤلفاته وتحقيقاته حتى نفع اهلذ به الإسلام والمسلمين في العالم كله
، وقد قامت بسببه -بعد توفيق الله له- نهضة علمية حديثية آتت ثمارها ،
وفوائدها وانتشرت السنة والدعوة السلفية بجهوده الكبيرة -بعد تسديد اهل
له- في جميع أنحاء المعمورة بين شباب الأمة ودعاتها وعلمائها ولله الحمد
والمنة ، وقد شهد له غير واحد من كبار علماء عصره بالتفوق العلمي ،
والجهاد الدعوي في سبيل السنة ، والدفاع عنها ، ونصرة العقيدة السلفية ،
ونقض ما خالفها من العقائد الباطلة المخالفة لمنهج الكتاب والسنة ومنهج
السلف الصالح ، فهذا المفتي الأكبر للمملكة العربية السعودية -سابقاً-
محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى قال في الألباني : " صاحب سنة ونصرة
للحق ومصادمة لأهل الباطل " .
وقال فيه العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله- "
الألباني الآن علم على السنة ، الطعن فيه إعانة على الطعن في السنة " .
وقال الإمام ابن باز -رحمه الله تعالى- فيه : " ما رأيت تحت أديم السماء
عالماً بالحديث في العصر الحديث مثل العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني
" .
وغير ذلك من الأقوال والشهادات لهذا الإمام الجبل الألباني -رحمه الله
تعالى- حتى مخالفيه من أهل الأهواء شهدوا له يالعلم وبأنه محدث العصر ،
فكان ذلك كلمة إجماع بلا نزاع ، وإن ما يجب ذكره هنا في حق هذا الإمام
للتاريخ وللعلم وللأجيال أن جهاد هذا الإمام في الدعوة إلى اهله وإلى
السنة الصحيحة وييان العقيدة السلفية ، وكسر ما عليه أهل الياطل من أهل
الأهواء والبدع وغير ذلك مما عاش من أجله وسخر حياته وكل ما يملك في
سبيله ، كل ذلك كان في عصر سنواته التي كانت مرتع الأهواء ومأوى البدع
والضلالات من الصوفية والطرقية والقبورية وغيرهم من الخارجين عن منهاج
السلف الصالح -رضي الهه عنهم- ، فكان -رحمه اهلو تعالى- شوكاً في حلوقهم
، وقذى في أعينهم ، مع قلة المعاون والناصر من العلماء الذين هم على
الطريقة السلفية علماً وعملاً ، فحصل له من جراء ذلك محن وفتن ، ووشي أهل
الأهواء به إلى الحكام فسجن مرتين -رحمه اهلس تعالى- صابراً محتسباً
الأجر عند اهلو تعالى ومما يجب ذكره هنا أيضاً فى هذا المقام أن هذا
الإمام مع ما كان يحمله من المآثر العظيمة ، والمناقب الجليلة ، في العلم
والعمل والدعوة إلى الله عزوجل بقي فترات من حياته مشرداً لا بلاد تؤويه
، ولا عصبة أو قبيلة تحميه ، حتى أكرمه اهلع تعالى في آخر مرحلة من عمره
بالاستيطان في دولة الأردن عن طريق بعض أهل العلم والفضل -جزاه اهلا
خيراً- وأعظم له المثوبة والأجر ، فشرع في إكمال مشروعه العظيم الذي عاش
من أجله وهو تقريب السنة بين يدي الأمة ، فنفع اهلا به المسلمين ، وانتفع
به طلاب العلم والعلماء ، فما يخرج له كتاب جديد إلى عالم المطبوعات حتى
يتطاير بين أيديهم في كل الأمصار ، بلهج شديد .
وأخيراً فإن الكلام عن هذا الإمام وعن جهاده وعلمه ودعوته وخلقه وتواضعه
كثير جداً لا يسع له هذا المقام ، ولا يسعنا في هذا المكان إلا أن نرفع
أكف الضراعة إلى الله تعالى فندعوه : اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا
خيراً منها ، اللهم اغفر لشيخنا وارحمه وطيب ثراه وقدس روحه وأعل درجته
في عليين ، واجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأئمة العلم
والحديث مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي
زرعة وابن باز وجماعتهم في جنات النعيم ، آمين آمين ، وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين وصلى الهي وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين .
المصدر: مجلة الدعوة (1713/13).