مواقف وذكريات مع الشيخ العلامة
ناصر الدين الألبانى، بقلم: باسم فيصل الجوابرة
عرفت شيخنا الإمام العلامة المحدث الفقيه مجدد هذا القرن ناصر السنة
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه اهلل- منذ سبع وعشرين سنة في أواخر
( عام 1973 م ) فقد كنت طالباً في المرحلة الثانوية ، وكنت في ذلك الوقت
مع مجموعة من الشباب نكفر المسلمين ، ولا نصلي في مساجدهم -بحجة أنهم
مجتمع جاهلي- .
وقد كان المخالفون لنا في الأردن يهددوننا دائماً بالشيخ محمد ناصر الدين
الألباني ، وبأنه هو الوحيد الذي يستطيع أن يناقشنا ، ويقنعنا ، ويرجعنا
إلى الطريق المستقيم ، فعندما قدم الشيخ ناصر إلى الأردن من دمشق حدث أن
مجموعة من الشبان تكفر المسلمين ، فرغب في لقائنا ، فأرسل صهره -نظام
سكجها- إلينا ، فنقل إلينا رغبة الشيخ ناصر بلقائنا ، فأجبناه : من
يريدنا فليأت إلينا ، ولن نذهب إليه ، ولكن شيخنا في التكفير أخبرنا أن
الشيخ ناصر من علماء المسلمين وله فضل لعلمه ، وكبر سنه ، ويجب أن نذهب
إليه ، فذهبنا إليه في بيت صهره -نظام- ، وكان قبيل العشاء ، فأذن أحدنا
، ثم أقمنا الصلاة ، فقال الشيخ ناصر الدين : نصلي بكم أم تصلون بنا !
فقال شيخنا التكفيري : نحن نعتقد كفرك ! فقال الشيخ ناصر الدين : أما أنا
فأعتقد إيمانكم ، ثم صلى شيخنا بنا جميعاً ، ونحن معه ، ثم جلس الشيخ
ناصر في نقاش معنا ، استمر حتى ساعة متأخرة من الليل ، فكان أكثر النقاش
مع شيخنا ، أما نحن الشباب فكنا نقوم ونجلس ، ثم نمدد أرجلنا ، ثم نضطجع
على جنوبنا ، وأما الشيخ ناصر فهو على جلسة واحدة من أول الجلسة إلى
آخرها ، لم يغيرها أبداً ، في نقاش دائم مع هذا وهذا وذاك ، فكنت أستغرب
من صبره وجلده !!!.
ثم تواعدنا أن نلتقي في اليوم التالي ، وقد رجعنا إلى بيوتنا نجمع الأدلة
التي تدل على التكفير بزعمنا ، وجاء الشيخ ناصر في اليوم الثاني إلى بيت
أحد إخواننا ، وقد جهزنا الكتب والردود على أدلة الشيخ ناصر ، واستمر
النقاش والحوار من بعد العشاء إلى قبيل الفجر ، ثم تواعدنا بالذهاب إليه
في محل إقامته ، فذهبنا إليه بعد العشاء في اليوم الثالث ، واستمر النقاش
حتى أذن المؤذن لصلاة الفجر ، ونحن في نقاش وحوار دائم نذكر الآيات
الكثيرة التي تدل على التكفير في ظاهرها ، وكذلك نذكر الأحاديث التي تنص
ظاهراً على تكفير مرتكب الكبيرة ، والشيخ ناصر كالطود الشامخ يرد على هذا
الدليل ، ويوجه الدليل الآخر ، ويجمع بين الأدلة المتعارضة في الظاهر
ويستشهد بأقوال السلف وبالأئمة المعتبرين عند أهل السنة والجماعة ، وبعد
أذان الفجر ذهبا جميعنا تقريباً مع الشيخ ناصر الدين إلى المسجد لأداء
صلاة الفجر ، بعد أن أقنعنا الشيخ ناصر بخطأ وضلال المنهج الذي سرنا عليه
، ورجعنا عن أفكارنا التكفيرية -بحمد الله- إلا نفراً قليلأ آل أمرهم إلى
الردة عن الإسلام بعد ذلك -نسأل اهلد العافية- .
فمنذ ذلك اليوم وأنا تلميذ للشيخ ناصر الدين الألباني ، فعندما كان يأتي
من دمشق إلى الأردن أحرص على حضور دروسه في المساجد ، وفي بيوت الإخوة
السلفيين .
وبعد أن أكملت الثانوية العامة توجهت إلى دمشق لإكمال الدراسة الجامعية :
فذهبت إلى المكتبة الظاهرية ، ودخلت على الشيخ ناصر في الغرفة المخصصة له
، فوجدته منغمساً في القراءة والبحث ، فسلمت عليه ، ورحب بي وهو جالس على
كرسيه ، وبعد سؤاله عني وعن الإخوة في الأردن سؤالاً سريعاً ، استمر في
القراءة والبحث ، فجلست حوالي ربع ساعة دون أن ينطق الشيخ بكلمة ،
فاستأذنت ، وانصرفت ، وأنا في نفسي شيء على الشيخ ، إذ لم يرحب بي
ترحيباً كبيراً ، فكنت أتوقع أن يقوم الشيخ من مكانه ، ويترك القراءة ،
ويجلس معي ، ويطلب لي الشاي أو القهوة ، أو يدعوني إلى بيته ، وكل ذلك لم
يحصل !! ولكن حبي للشيخ جعلني أرجع إليه بعد أيام في غرفته -بالظاهرية- ،
وكأنه أحس بالذي أحست به : فسأل عني ، ورحب بي ، وقال لي : لعلك وجدت في
نفسك المرة الماضية ! ثم قال : يا باسم أنا في هذا المكان يدخل علي في
اليوم أكثر من عشرين زائراً ، فلو جلست مع كل زائر ، وتبادلت معه الحديث
، لم أعمل شيئاً قط ، ولضاع وقتي كله ، فما أخبرني علماً ، وما أفاد
طالباً .
وكانت معظم دروس الشيخ ، ومحاضراته هي الدعوة إلى العقيدة الصحيحة -عقيدة
السلف الصالح- ، ومحاربة البدع ، والخرافات والتصوف ، ويدعو إلى التمسك
بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ، وكان كثيراً ما يردد أنه لا تكفي
الدعوة إلى الكتاب والسنة فقط ، بل لا بد من فهم الكتاب والسنة ، كما فهم
سلف الأمة ، وإلا فإن معظم الفرق والطوائف تقول : نحن على الكتاب والسنة
.
وكانت حياته كلها دعوة إلى إحياء السنة وتطبيقها ، ومن الأمور التي كان
يحث عليها في دروسه ، وفي مجالسه الخاصة والعامة : التصفية ، والتربية .
تصفية الإسلام مما علق به من الخرافات والمنكرات ، وتربية المسلمين على
هذا الإسلام المصفى.
تصفية العقيدة مما علق بها من العقائد الباطلة كعقائد أهل الكلام من
مؤولة ، أو معطلة ، أو محرفة لأسماء اهل وصفاته .
وتصفية السنة مما فيها من الأحاديث الضعيفة ، والموضوعة ، وتمييزها عن
الأحاديث الصحيحة ، والاحتجاج بالصحيحة دون الضعيفة .
تصفية كتب التفسير من الإسرائيليات . والأحاديث المنكرة ، والضعيفة ،
والأقوال الباطلة .
تصفية السيرة النبوية ، وتمييز الروايات الصحيحة من الضعيفة ، والشيخ
ناصر من أوائل من دعا إلى تصفية السيرة ، وقد ألف كتاباً في الدفاع عن
السيرة ، رداً على من ألف في السيرة في هذا العصر ، جامعاً في مؤلفه
الضعيف ، والمنكر ، وغيره .
إن من يعرف الشيخ ناصراً يعرف أنه قوي الحجة ، إذا ناقش مخالفاً ناقشه
بعلم وصبر وأناة ، فما رأيت أحداً ناقش الشيخ ناصراً إلا والحجة مع الشيخ
.
ومن الأمور التي يجب أن تعرف للشيخ أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
-رحمه اهلا- يعرف الشيخ ناصراً من زمن طويل ، فقد حدثنا سمو الأمير عبد
اهلع بن فيصل الفرحان -شفاه اهلا وعافاه- بأنه أراد الذهاب إلى الشام ،
قبل خمس وأربعين سنة -تقريباً- . فقال : فذهبت إلى سماحة الشيخ ابن باز ،
وقلت له بأنني ذاهب إلى الشام ، وأنا لا أعرف أحداً هناك ، فهل تعرف
أحداً أذهب إليه ؟ وهو على عقيدة سليمة وبعيد عن البدع والخرافات ، فقال
الشيخ ابن باز -رحمه الهر-: اذهب إلى الشيخ ناصر الدين الألباني ، فإنه
على عقيدة سليمة ، فيقول سمو الأمير : فذهبت إلى الشيخ ناصر ، فعلمت أن
له درساً أسبوعياً في بيته -أظنه من كل يوم خميس- بعد المغرب ، فكنت أذهب
إليه طيلة مكثي في دمشق التي استمرت حوالي شهرين .
وعندما التحقت بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة -على صاحبها أفضل
الصلاة وأتم التسليم- في أواخر عام 1974 م ، فكان الشيخ ناصر يأتي للعمرة
أو للحج ، أو في رمضان ، فمنذ اللحظة التي يصل فيها إلى المدينة يجتمع
عليه طلبة العلم ، ففي الشارع تجد العشرات يمشون خلفه ، وأمامه ، وعلى
جانبيه ، وفي المسجد تجد الطلبة ملتفين حوله ، وأما دروسه التي يلقيها
فكان يحضرها المئات ، أذكر أنه ألقى محاضرة في دار الحديث بالمدينة بعد
العشاء ، حضرها المئات من طلبة العلم ، استمرت إلى ساعة متأخرة من الليل
، وكنت أصحبه طوال مكثه في المدينة ، وكنت أسافر معه إلى مكة ، وجدة ،
وكان للشيخ سيارة قديمة صغيرة ، فكان إذا أراد أن يسافر إلى مكة أعطاه
الشيخ عبد الحسسن العباد -حفظه اهل - نائب رئيس الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة آنذاك سيارة حديثة من الجامعة ، للسفر بها ، وكان الشيخ
ناصر هو السائق لها ، وكنا في الطريق نطلب أن نريحه من قيادة السيارة ،
فكان يرفض ! ويقول : لم أستأذن بأن أعطي السيارة لأحد غيري ، وكان طوال
الطريق يجيب عن الأسئلة ، أو يوضح مسألة ، دون تعب أو كلل .
وأذكر أن الشيخ جلس ليلة ساهراً ، حتى أذن الفجر في المدينة ، وهو في
نقاش مع الشباب ، وبعد أداء الصلاة في المسجد النبوي أراد الشيح أن يسافر
إلى مكة لأداء العمرة ، فقلنا له : أنت لم تنم ، قال : أجد بي قوة
ونشاطاً ، فركب السيارة ، وسافرنا معه إلى مكة ، وعند الساعة التاسعة
صباحاً تقريباً أوقف السيارة عند ظل شجرة ، وقال : سأنام ربع ساعة فقط ،
فإن لم أستيقظ أيقظوني ، فضمرنا في أنفسنا أن لا نوقظ الشيخ حتى يستريح ،
وبعد ربع ساعة من الوقت استيقظ وحده ، فركب السيارة ، وتوجهنا إلى مكة ،
فأدينا العمرة ، ثم ذهبنا إلى بيت صهره -الدكتور رضا نعسان- فإذا طلبة
العلم ينتظرون الشيخ ، فجلس معهم ، كما هي عادة الشيخ في نقاش ومناظرة
إلى ساعة متأخرة من الليل دون تعب .
وفي عام 1398 هـ أدى الشيخ ناصر فريضة الحج ، وسكن معنا -أنا وإخوتي-
ومعه أخواه أبو أحمد -رحمه اهلة- وأبو جعفر وزوجتاهما ، وكان إخوتي قد
جهزوا له مخيماً في منى وعرفات ، وكان طلبة العلم لا يفارقونه ليلاً أو
نهاراً ، وكان يقضي الساعات الطوال في الإجابة عن الأسئلة ، والمناظرة ،
والمناقشة ، وكنا نشفق على الشيخ من كثرة ما يسهر ، أو يجلس دون أن
يستريح ، وكنا نطلب من طلبة العلم ، أن يخففوا عن الشيخ ، ولا يكثروا
الأسئلة ، والجلوس معه ، وما رأيت عالماً حرص على الوقت مثل الشيخ ناصر
الدين ، فهو لا يضيع لحظة من عمره دون أن يستفيد ، فوجدته كما وصفه الشيخ
ابن باز ، في وضوح المنهج ، وسلامة العقيدة ، بعيداً عن البدع والخرافات
، محباً لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، والشيخ محمد بن
عبد الوهاب على منهج السلف .
ولهذا عندما قام الشيخ ناصر إلى الرياض أصر سمو الأمير أن ينزل في بيته
بالرياض ، ودعاه إلى مزرعته بالخرج .
وقد حدثني الشيخ الدكتور أحمد معبد -الأستاذ السابق بقسم السنة بكلية
أصول الدين- أنه أول ما تعرف على كتابات الشيخ ناصر عندما كان يكتب في
مجلة التمدن الإسلامي قبل أكثر من ثلاثين سنة ، فيقول : كنت أسأل نفسي
كيف يعرف الشيخ ناصر الحديث الضعيف من الصحيح ، وما هي الطريقة لمعرفة
ذلك ، فقد كنت أستغرب ، يقول الشيخ ناصر : رواه النسائي بإسناد ضعيف ،
رواه أبو داود بإسناد صحيح ، فعندما أرجع إلى سنن النسائي أو إلى سنن أبي
داود لا أجد هذا الكلام ، فأقول : كيف عرف ذلك هل هو ساحر !. ثم قال :
كنت أستأجر المجلة لمدة يوم ، أو يومين -لأنني لا أملك ثمن النسخة- لأجل
مقالة الشيخ ناصر ، وأذهب بها إلى البيت ، فأنسخ مقالة الشيخ ، أو أعطيها
إلى أحد الطلبة ، أو الطالبات لنسخ مقالة الشيخ ناصر ، وقال لي ( سراً )
: إن إحدى الطالبات النصرانيات كانت من طالباته ، وكان خطها جميلاً ،
فكان يعطيها مقالة الشيخ لنسخها ، ثم يقرؤها مرة ومرتين .
فهذه القصة تعطيك -أخي القارىء- مدى الجهل الذي كان عليه طلبة العلم في
علم الحديث ، وكان الفضل له -سبحانه وتعالى- ثم للشيخ ناصر في نشر علم
الحديث ، ودراسته ، ومعرفة الصحيح من الضعيف ، والموضوع ، وقد أخذ المدرس
، والواعظ ، والخطيب ، والكاتب ، والمتكلم لا ينسب لرسول اهلع -صلى الله
عليه وسلم- شيئاً إلا عزاه إلى مصدر ، أو تأكد من صحته .
ومما يدل على صبره وجلده في طلب العلم : ما حدثني به الدكتور محمود
الميرة -حفظه اهله- بأن الشيخ ناصر صعد على السلم في المكتبة الظاهرية
ليأخذ كتاباً -مخطوطاً- ، فتناول الكتاب وفتحه ، فبقي واقفاً على السلم
يقرأ في الكتاب لمدة تزيد على الست ساعات .
وكان الشيخ شديد التمسك بالسنة ، وكان يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع
-رغم كبر سنه- شديد الورع ، شديد التأثر ، فإذا ذكرت الآخرة أمامه بكى ،
وإذا مدح في وجهه بكى ، وقد زاره أحد الإخوة قبل سنتين أو أكثر ، وكنت
معه في بيت الشيخ ، فقال له الأخ : ما سمعت عن عالم ثم رأيته إلا وجدته
أقل مما سمعت عنه إلا أنت يا شيخنا ، فإننا سمعنا عنك ، فوجدناك أكثر
وأعظم مما سمعنا عنك ، فبكى الشيخ ، ونهاه عن هذا المدح .
وكان الشيخ -رحمه اهلا- صريحاً ناصحاً ، إذا رأى المنكر أو مخالفاً للسنة
نصحه مباشرة ، فلو رأى أحداً أكل أو شرب بشماله ، قال له : كل بيمينك ،
وإذا رأى أحداً حالقاً لحيته نصحه ، وهكذا ، وعندما قرأت عليه كتابي "
جواز الأخذ فيما زاد عن القبضة من اللحية " تبسم ، وقال لي : وهل عملت
أنت بما في كتابك ؟؟
ولقد كنت أزوره في بيته ، فأقبل يده ، فينكر علي ، ويقول لي : ألم أنصحك
في المرة الماضية أن لا تفعل ، فأقول له : أنت أولى الناس أن نقبل يده ،
ومرة زرته ، فقبلت جبينه ، فأنكر علي ، وقال : هذه بدعة نجدية !
وهكذا عاش الشيخ ناصراً للسنة ، قامعاً للبدع وأهلها ، وكان بعد موته
محيياً للسنة -أيضاً- كما في حياته ، فقد أوصى قبيل موته بوصيتين :
الأولى : أن لا تؤخر جنازته ولا ينتظروا أحداً ، والثانية : أن يحمل على
الأكتاف من بيته إلى المقبرة ، وفعلاً نفذت هاتان الوصيتان ، فقد دفن بعد
موته وتغسيله مباشرة بعد صلاة العشاء ، وحمل على أكتاف الشباب من بيته
إلى المقبرة ، فرحمة الله على شيخنا الإمام رحمة واسعة ، وأسكنه ومن أحبه
الفردوس الأعلى -آمين- .
المصدر: مجلة الشقائق (26/26-27).