مع شيخنا ناصر السنة والدين في شهور
حياته الأخيرة، بقلم: علي بن حسن الحلبي الأثري
قبل أن أبدأ كلامي حول شيخنا ووالدنا ، الأستاذ ، العلامة ، أسد السنة ،
وفخر الأئمة ، أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الهي- أذكر
مفارقتين مهمتين :
هما بدء الخير في مولده ، ومسك الختام في وفاته :
أما أولاهما : فإن سنة (1333 هـ) - وهي سنة مولده -رحمه الله- كانت السنة
نفسها التي توفي فيها شيخ الشام العلامة المتفنن الإمام جمال الدين
القاسمي -رحمه اهل - فتلك سنة شهدت أفول نجم ، ليعلن به بزوغ آخر ، وذلك
في سماء الشام لتضاء به - من بعد -أقطار العالم- هداية و إصلاحاً.
أما الثانية : فإن سنة (1420 هـ) وهي سنة وفاته -رحمه اهلً- كانت السنة
نفسها التي توفي فيها سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن
باز -رحمه اهلي- .
نعم ، في شهور قليلة افتتدنا –معاً- أبا عبد اهلي ، ثم أبا عبدالرحمن ،
فرقدين نيرين امتلأت بأنوارهما الدنيا بأسرها ، سماؤها وأرضها .
وكان هذا تأويل لتلك الرؤيا الصالحة التي تواطأ عليها غير واحد من أهل
الخير في أوقات متباينة ، وأماكن متباعدة -قبل عدة أشهر- في رؤياهم
كوكبين عظيمين في السماء امتلأت الآفات بهما نوراً . فإذا بأحدهما يسقط
من عل ، ثم إذا بالآخر -بعد- يتبعه !!
نعم ، تكاد الدنيا تظلم بفقد هذين الإمامين العلمين ، اللذين جمع الله
-سبحانه- إليهما الخير من أطرافه ، علماً ، ودعوة ، وعقيدة ، ومنهجاً
براً وإصلاحاً .
ولكن ، في الله خلف ، وهو المستعان .
~ لثد امتن اهل -وله الفضل- على كاتب هذه السطور بصحبة ميمونة مباركة
لشيخنا أبي عبد الرحمن -رحمة الهع عليه- امتدت اثنين وعشرين عاماً من
الزمن ، تعلماً ، واستفادة ، ومحبة ، وتعاوناً ، وإصلاحاً ، كللت -في
آخرها- برفقة قريبة منه -رحمه الله- في بيته ، وبين كتبه ، بجوار مكتبه ،
طيلة ثمانية شهور هي آخر ما عاشه الشيخ -تأليفاً وتخريجاً- في حياته
العلمية المباركة ، التي ختمت بالخير والسعادة -إن شاء اهلح- .
مواقف وخواطر :
ولقد رأيت منه -تغمده اهلر برحمته- مواقف علمية عالية ، تدل على عظم
إمامته ، وكبر مكانته ، أذكر منها -لإخواني في اهلو- أموراً يَفيدون منها
، ويُفيدون :
أولاً : عندما أخبرته بوفاة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-
لم يتمالك نفسه من البكاء ، فدمعت عيناه دمعات حارة ، وتكلم عنه -رحمهما
الله- بكلمات بارة .
ثانياً : لم يفتر عن الجلوس وراء مكتبه -للتأليف والتخريج- حيث كان يأتي
بالكتب إليه بعض أبنائه وحفدته -إلى آخر خمسين يوماً في عمره الميمون- ،
وذلك لما وهن بدنه ، ونحل جسمه ، وضعفت قوته . ومع ذلك ، فقد كان -بحمد
الله- سليم الذهن ، نظيف العقل ، قوي التذكر ، معلقاً قلبه بالقرآن
والسنة .
ولست أنسى إن نسيت -كما يقال- اتصاله الهاتفي بي قبل نحو ثلاثين يوماً من
وفاته ليسألني عن كتاب في التفسير له ما يميزه ، تذكره بوصفه ، وطريقته ،
ولون غلافه ، ولكني ضعفت -وللأسف- عن إعانته في معرفته ، فلا حول ولا قوة
إلا بالهك .
ومثل هذا : ما أخبرني به أخونا الفاضل أبو عبادة عبد اللطيف ابن شيخنا
محمد ناصر الألباني : أن شيخنا -رحمه اهل - طلب منه قبل ثمانية وأربعين
ساعة من وفاته إحضار كتابه ، صحيح سنن أبي داود لينظر فيه شيئاً وقع في
قلبه ، وورد على خاطره .
ثالثأ : في الحين الذي ضعفت فيه يد شيخنا عن كتابة ما يطول كتبه : كان
يملي على بعض أبنائه وحفدته ما يخرجه من أحاديث ، وبخاصة في " سلسلة
الأحاديث الضعيفة " ثم يكتبون عنه .
ولا يزال في عقلي وبين عيني إملاؤه -قبل شهور قليلة- ثماني عشرة صفحة في
تخريج حديث ضعيف منكر ، جمع فيه بين يديه -وعلى طاولته- عشرات المراجع
الحديثية مخطوطاً ومطبوعاً ، نظم المراد منها نظماً بديعاً بسلك رائع ،
مليء فوائد وتنبيهات ، ولطائف وتعقبات .
وليس يخفى على أحد تعاطى الكتابة والتصنيف صعوبة الجمع بين النظائر من
كتب كثيرة هو ينقل منها بنفسه ، ويكتبها بيده ، فكيف الحال بمن يملي منها
إملاءً ؟!!
رابعاً : رأيت اهتماماً خاصاً من شيخنا -يرحمه اهلو- بكتاب " المداوي
لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي " تصنيف أحمد بن الصديق الغماري -يراجع
منه ما كتبه مؤلفه- حول ما يقع لشيخنا من أحاديث في " السلسلة الضعيفة "
هي موجودة في " الجامع الصغير " فكان ينظر كلامه وينتقده ، ويرد عليه ،
ويتعقبه ويطيل في مناقشته .
ولقد كتبت عنه بتاريخ 22 ذي القعدة 1419 هـ في منزله - قوله في هذا "
المداوي " ما نصه : ( هذا كتاب غير جيد ، ولا أنصح بقراءته إلا لخواص
طلبة العلم ) وحبذا لو قام بعض الطلبة الأقوياء بتتبعه والرد عليه بكتاب
يسميه -مثلاً- " الكاوي للمداوي " يقتصر فيه على تعقبه على ما صححه -أو
سكت عنه- وهو ضعيف ، أو ضعفه وهو صحيح ! ونحو ذلك من أوهام مهمة .
خامساً : كان آخر كتاب عمل به شيخنا في السنتين الأخيرتين : هو كتاب "
تهذيب صحيح الجامع الصغير والاستدراك عليه " ولقد قال لي لما سألته عنه
-أول اشتغاله به- " هذا مشروع اقترحه علي مرضي وعجزي " .
وخطته فيه : تخريج الأحاديث التي لم يكن قد وقف على أسانيدها -من قبل-
اكتفاء بما رآه من أحكام العلماء والأئمة عليها كأحاديث " تاريخ دمشق "
لابن عساكر ، و" معجمي " الطبراني : " الأوسط " و" الكبير " وما أشبه ذاك
.
ثم ربط الأحاديث المختلفة المواضع من " الجامع الصغير " مما هي –أصلاً-
ألفاظ لحديث واحد ، مع التنبيه على ما يكون قد وقع للسيوطي من أوهام -أو
أغلاط- في العزو أو الحكم .
وهو -في هذا كله- يغذي سلسلتيه الذهبتين : " الصحيحة " و " الضعيفة "
كلاً بما ينتظمه من تخريجاته وأحكامه.
سادساً : كان لقربي الأخير منه -رحمه الله- فوائد عظيمة جداً ، أعدها
دورة علمية مكثفة ، عرفت فيها -أكثر وأكثر- طريقة الشيخ ، ودقته ،
وبراعته ، وأفدت بها الكثير من فرائد الفوائد ، ولطائف المعارف ، ومن أجل
ذلك وأهمه : وقوفي على ( جميع مؤلفاته وتخريجاتة المخطوطة ) ومعرفتي لها
ودرايتي بها ، وفهرستها ، وتمييزها ، وتبويبها ، وقد بلغت -أعني :
المخطوطة منها- نحواً من مئة وخمسين كتاباً ، بعضها في ورقات ، وبعض آخر
في مجلدات ، بعضها كامل تام ، وبعضها مات شيخنا -رحمه اهلح- عنها دون
التمام .
سابعاً : حرصت طيلة هذه الشهور -وبخاصة في النصف الأخير منها- على ألا
يكون مني سفر أفارق به شيخنا ، وأغيب عنه فاعتذرت بسبب ذلك عن سفرات عدة
لبلاد متعددة ، مثل : أمريكا ، وألمانيا ، وهولندا ، وإسبانيا ،
وأندونيسيا ، ولكني تذكرت طارئاً لابد من إنفاذه حرصاً مني على استمرار
تسيير إقامة رسمية في بلاد الحرمين ، لم يبق منها إلا يومان - فاستأذنت
شيخنا يوم الأربعاء لاستئذانه بالسفر ووداعه ، ولم أكن لأعلم ما يخبيء
لنا القدر !! فزرته بعد العشاء ، فكان مستلقياً على فراشه ، مسنداً ظهره
إلى طرف السرير ، فرأيته -والله- كما لم أره منذ شهور ، صفاء وجه ،
ولمعان عينين ، ونقاء صوت ، وراحة بال ، فقلت له : " والله يا شيخنا لا
أحب مفارقتكم ، ولكن لا بد مما لا بد منه " ثم شرحت له ضرورة سفري
ولزومها ، فتقبل ذلك بقبول حسن ، داعياً لي بالتوفيق ، قائلاً : "
أستودعك الها . . . وأرجو الله أن تعود لأهلك سالماً " ثم استأذنته
وودعته .
وصباح يوم الخميس سافرت ، ووصلت الرياض بعد صلاة الظهر .
وفي اليوم التالي ، وبعد صلاة الجمعة بنحو ساعتين اتصلت من الرياض ببيت
شيخنا مطمئناً عليه ، فجاءني الخبر من حرمه الوالدة الكريمة أم الفضل
-ألهمها اهلج الصبر وكتب لها الأجر- تخبرني أن الشيخ على ما هو عليه مما
رأيته فيه قبل أقل من يومين !! .
وجاء اليوم الموعود " إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون " .
وصلينا المغرب في ( جامع الديرة ) في مدينة الرياض ، وأمنا في الصلاة
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلع آل الشيخ مفتي بلاد الحرمين ،
والتقيت في المسجد عدداً من الأخوة الأفاضل ، منهم الشيخ عبد العزيز
السدحان -بارك اهلت فيه- فعرفني بعد الصلاة بسماحة المفتي وسلمت عليه ،
ورحب بي ، ثم سألني الأخ السدحان عن الشيخ ناصر -كعادة جل من يراني سفراً
وحضراً- فأجبته بأن وضع شيخنا مستقر -على ما فيه من مرض- ونسأل اهل له
القوة .
ولم نكن لندري -هذه اللحظات- أن شيخنا الآن يموت . . أو مات . . .
وكان بين العشاءين -قريباً من المسجد- مجلس علمي جمع بعض الإخوة الأفاضل
من طلاب العلم ، ومن حسن توفيق اهلا -سبحانه- أن هذا المجلس كان حول
شيخنا وجهوده العلمية ، وكان السؤال الأول من صاحب المنزل متعلقاً بما
يثيره البعض من اتهام شيخنا بالإرجاء ، ومخالفة أهل السنة في مسألة
الإيمان ، فأجبت عن ذلك - بفضل اهلل- أجوبة قوية مستقاة من كبار أئمة
العلم قديماً وحديثاً ، كشيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه الإمام ابن
القيم ، ومن سار على مثل ما هما عليه من العلم والإيمان ، مبيناً أن منهج
شيخنا مؤتلف معهم غير مختلف ، ومتفق غير مفترق .
وما أن أنهيت السؤال الأول . . . وقبل البداءة بالسؤال الثاني إذا بالخبر
العاصف يأتي عبر الهاتف - وذلك بعد صلاة المغرب بنصف ساعة فقط - أن الشيخ
الألباني قد توفاه اهل .
لا إله إلا اهلل . . . إنا لله وإنا إليه راجعون .
لقد كانت -واهلس- صدمة ، ولكننا صبرنا وما جزعنا .
وفي أقل من ساعة من الزمن كانت -أو كادت- الرياض -كلها- تعلم بوفاة الشيخ
، ثم مكة والمدينة ، و . . . و . . . وكان العالم كله في سويعة واحدة عرف
خبر وفاة الشيخ ، وحزن عليه ، وبكاه .
ولقد كان حزني -في قلبي- أشد ، وجرحي -في فؤادي- أنكى :
قد كان ما خفت أن يكونا *** إنا إلى الله راجعونا
ما حرصت عليه : وقع عكسه ، وما اجتنبته وتحاشيته : وقع بنفسه ( حكمة
بالغة ) فلا حول و لا قوة إلا بالله .
ولئن توفي الشيخ - ودفن - وأنا بعيد عنه - وهذا شديد علي - فلقد كانت
سلواي -والفضل لله- أنني كنت آخر من تكلم مع الشيخ ودعا له ، وصافحه ،
والتقاه من إخواننا طلاب العلم -سوى أهل بيته- فالحمد لله على ما قدره
ويسره .
وفي صبيحة يوم الأحد ، وقبل الظهر بقريب من ساعتين : وصلت طائرة الرياض
إلى عمان ، وسارعت إلى قبر الشيخ ، مطبقاً لسنن كان يحرص الشيخ عليها
-إذا فاتته الصلاة على جنازة حبيب أو قريب- فصليت عليه -عند قبره- تسع
تكبيرات داعياً له بالرحمة ورفعة الدرجة ، وصحبة الأخيار من عباد الهأ
الأبرار .
لقد سافرت من عمان يوم الخميس مسلماً على شيخنا -قبل ذلك بيوم- ورجعت
إليها يوم الأحد ، وقد اختاره الها إلى جواره قبل ذلك بيوم ، ولم يكن
هذان اليومان سوى يومين !!
ثامناً : كانت وصية شيخنا المكتوبة مؤرخة بتاريخ 27 جمادى الآخرة 1410 هـ
أي قبل عشر سنوات كاملة .
فكان عمره كله سنة . . . حياته ومماته .
جمال ذوي الأرض كانوا في الحياة وهم بعد الممات جمال الكتب والسير
فهذه ثمانية مواقف في ثمانية أشهر ، أولها هو الأغلى في حياتي ، وآخرها
هو الأصعب في نفسي .
رحم الله شيخنا رحمة واسعة ، وألحقنا به في الصالحين من عباده ، إنه
-سبحانه- سميع قريب مجيب .
المصدر: مجلة الفرقان (115/24-25).