شذرات من ترجمة الألباني، بقلم:
عاصم بن عبد الله القريوتي
" إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد ، ولكن
يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً
، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا " .
وتزداد المصيبة عندما يكون فقدان العالم مصيبة لكافة طبقات الناس محدثين
وفقهاء وعلماء ودعاة ، مربين وموجهين ، أساتذة وطلاباً ، وهذا ما ألم
بالمسلمين حقاً على اختلاف طبقاتهم عندما تلقوا خبر وفاة شيخنا أستاذ
العلماء ، عمدة المحققين ، مجدد هذا القرن ، الشيخ العلامة محدث العصر
محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني ، - غفر اهلة له وأسكنه فسيح
جناته ورفع درجاته آمين .
وتأتي هذه الفاجعة بعد قرابة خمسة أشهر من فجيعة العالم الإسلامي بشيخ
الإسلام والمسلمين سماحة العلامة المجدد الشيخ عبد العزيز بن باز ، - غفر
اهله له وأسكنه فسيح جناته ورفع درجاته وجمعنا معهما بالجنة - .
مولده ونشأته :
ولقد كان مولد شيخنا العلامة الألباني سنة 1914 م في مدينة " أشقودرة "
التي كانت حينئذ عاصمة " ألبانيا " .
نشأ الشيخ في أسرة فقيرة متدينة يغلب عليها الطابع العلمي ، إذ تخرج
والده الحاج نوح -رحمه الله- في المعاهد الشرعية في العاصمة العثمانية "
الآستانة " ورجع إلى بلاده حيث صار مرجعاً للناس يعلمهم ويرشدهم .
وبعد أن تولى حكم ألبانيا الملك " أحمد زاغو " سار في البلاد في طريق
تحويلها إلى بلاد علمانية تقلد الغرب في جميع أنماط حياته ، قرر والده
الهجرة إلى بلاد الشام فراراً بدينه ، وخوفاً على أولاده من الفتن ،
ونظراً لسوء المدارس النظامية من الناحية الدينية ، قرر والده عدم إكمال
الدراسة ووضع له برنامجاً علمياً مركزاً ، قام من خلاله بتعليمه القرآن
والتجويد والصرف وفقه المذهب الحنفي .
ولقد درس شيخنا على والده بعض علوم اللغة ، كعلم الصرف ، ودرس عليه أيضاً
من كتب المذهب الحنفي فدرس عليه " مختصر القدوري " وتلقى منه قراءة
القرآن الكريم وختمه عليه بقراءة حفص تجويداً ، وكما درس على الشيخ سعيد
البرهاني -رحمه الله- " مراقي الفلاح " في الفقه الحنفي ، و " شذور الذهب
" في النحو ، وبعض كتب البلاغة المعاصرة .
وقدرغب العلامة المسند الشيخ محمد راغب الطباخ -رحمه اهلر- مؤرخ حلب
الشهباء بلقاء شيخنا ، وكان ذلك بواسطة الأستاذ محمد مبارك -رحمه اهلم-
وكان الألباني يومئذ شاباً في مقتبل العمر ، وقد أظهر الشيخ راغب إعجابه
بالشيخ الألباني لما سمعه عن نشاطه في الدعوة إلى الكتاب والسنة واشتغاله
في علوم الحديث ، ورغب في إجازته بمروياته وقدم إليه ثبته " الأنوار
الجلية في مختصر الأثبات الحلبية " ، فلذا يعتبر الشيخ راغب شيخاً له في
الإجازة .
طلبه لعلم الحديث :
لقد توجه الشيخ لعلم الحديث و هو في قرابة العشرين من عمره متأثراً
بأبحاث مجلة " المنار " التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه اهلث-
وكان أول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب " المغني عن حمل الأسفار في
الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار " للحافظ العراقي -رحمه اهلن-
والذي ينظر إلى جهد الشيخ في هذا العمل يعجب لنباهته وحسن اطلاعه في مثل
ذلك السن ، ويزداد عجبه من شدة إتقانه لترتيب الكتاب وتنسيقه وحسن خطه ،
وهو موجود في مكتبته العامرة .
ولقد وفقه الله في الانطلاق بالدعوة في دمشق ، وحمل الشيخ راية التوحيد
والسنة ووافقه على دعوته بعض أفاضل العلماء المعروفين في دمشق ، وحضوه
على الاستمرار قدماً ، منهم العلامة محمد بهجت البيطار والشيخ عبد الفتاح
الإمام رئيس جمعية الشبان المسلمين ، والشيخ توفيق البزرة -رحمهم الله-
وغيرهم من أهل الفضل .
مجالسه ودروسه :
ولقد كانت دروس الشيخ ومجالسه عامرة بالعلم والفوائد ، غزيرة النفع في
سائر العلوم ، ولقد قرأ الشيخ كتبا كثيرة في دمشق ، إذ كان يعقد درسين كل
أسبوع يحضرهما طلبة العلم .
ولقد زار دمشق قديماً الأستاذ الأديب عبد اهلس بن خميس ، ووصف زيارته
لدمشق وسفرته ، وكتب كتاباً بعنوان " شهر في دمشق " طبع عام 1374 هـ -
1955 م ، ذكر فيه انطباعاته عن شيخنا في ذلك الوقت ، وكان مما ذكر عن
زيارته تلك : " ولم أزل طيلة مقامي بدمشق محافظاً على درس الشيخ وقد
انتهوا في علم التوحيد من كتاب " فتح المجيد (وبدؤوا) في كتاب " اقتضاء
الصراط المستقيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وفي كل حين يزداد عددهم ،
وتتجدد رغبتهم ، ويكتبون وينشرون ، ومن تتبع مجلة التمدن الإسلامي وقف
على ما لهذا الشيخ وتلامذته من نشاط وجهود ، ولقد لمست بنفسي لهم تأثيراً
كبيراً على كثير من الأوساط ذات التأثير في الرأي العام مما يبشر بمستقبل
جد كبير لهذه الدعوة المباركة . . . وقد أجابني أحد الشباب المواظبين على
دروس الشيخ آنذاك عند سؤاله عن بداية تلك المجالس العلمية قائلاً : لا
أعرف على وجه التحديد الوقت الذي بدأ فيه الشيخ اجتماعاته ، وكان أول
اتصالي معه عام 1945م ، وكان يقرأ مع ما يقرب من ثلاثين أخاً كتاب " زاد
المعاد " ، وخرج من هذه الدراسة بكتابه القيم " التعليقات الجياد على
كتاب زاد المعاد " وهو مخطوط ، وقد طلب مني الشيخ حامد الفقي عام 1953م
أن أطلبه من الشيخ ، وأنه على استعداد لطبعه بجميع الشروط التي يضعها
الشيخ ، ولا أعرف السبب الذي منع الشيخ من إرسال كتابه للشيخ حامد ، ثم
انقطعت عن الشيخ حتى عام 1949م ، حيث قام الشيخ مع إخوانه بإحياء سنة
صلاة العيد خارج المدينة ، وقرأ (معه) بعض إخوانه في 1949م – 1950م "
نخبة الفكر " ، ثم بدأ مع إخوانه بقراءة كتاب " الروضة الندية " بدار
الأستاذ عبد الرحمن الباني ، وقد اتسعت هذه الحلقة حتى أصبح الذين
يحضرونها يتراوح عددهم بين 40-60 وأكثرهم من أهل الرأي والعلم ، ويقرأ في
جلسة ثانية كتاب فتح المجيد بناء على اقتراح الأستاذ عبد الحليم محمد
أحمد ، وهو مدرس مصري درس في الشام ثم في عمان ، وقد قدم له بقراءة رسالة
" تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد " ، وكان يحضر هذه الجلسة عدد مماثل
لعدد الجلسة الأولى .
وهناك جلسة شبه خاصة يدرس فيها كتاب " الباعث الحثيث في اختصار علوم
الحديث " ، وكتاب " طبقات فحول الشعراء " ، بعد أن انتهى الإخوان من
قراءة كتاب " أصول الفقه " ، وكانت تنعقد هذه الجلسة بدار الأستاذ علي
الطنطاوي ، وبعد سفره إلى باكستان عقدت بدار الدكتور أحمد حمدي الخياط ،
وهناك درس مع بعض علماء الشام في التفسير ، ودرس في كتاب " الترغيب
والترهيب " ، من بين الإخوان الذين يحضرون جميع أو بعض الدروس : الأستاذ
أحمد راتب النفاخ المدرس في الجامعة السورية ، والأستاذ عبد الرحمن
الباني مفتش دروس الدين في وزارة المعارف ، وعبد الرحمن نحلاوي مدرس
الفلسفة في ثانويات دمشق ، ورشاد رفيق سالم الذي كان يحضر دكتوراه في
الجامعة المصرية عن ابن تيمية وعضو لجنة الشباب المسلم المصرية ،
والأستاذ عصام عطار المدرس في المعهد العربي الإسلامي وعضو الهيثة
التشريعية للإخوان المسلمين في سوريا ، ومحمد مريدن " محامي " وموظف في
ديوان المحاسبات ، وخالد صائمة " محامي " ، والدكتور نبيه غبرة " طبيب "
، والأستاذ محمد الصباغ مدرس الأدب العربي في ثانوية درعا .
توليه التدريس بالجامعة
ولقد عرف قدر شيخنا العلماء الكبار والمشرفون على المراكز العلمية وهذا
مما شجع المشرفين على الجامعة الإسلامية بالمدينة حين تأسيسها وعلى رأسهم
سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الهل- رئيس الجامعة
الإسلامية آنذاك والمفتي العام للمملكة العريية السعودية ، أن يقع
اختيارهم على الشيخ ليتولى تدريس الحديث وعلومه وفقهه بالجامعة .
وبقي شيخنا في الجامعة الإسلامية ثلاث سنوات من عام 1381 هـ حتى آخر عام
1383 هـ يدرس الحديث وعلومه ، وكان خلالها مثالاً يقتدى به في الجد
والإخلاص والتواضع ، وكان ذلك يتجلى في جلوسه مع الطلاب خلال أوقات
الراحة بين الدروس ، وفي الرحلات التي تنظمها الجامعة ، كما كان عضواً في
مجلس الجامعة آنذاك .
كما كان يتمتع شيخنا -رحمه اهلي- بصفات حميدة عظيمة ، منها غيرته على
السنة النبوية ، وحبه العظيم لها ، وتمسكه الشديد بها ومحبته لأهلها ،
وحرصه على توحيد الله عز وجل ، وتحذيره من الشرك والبدع في كل المناسبات
، إضافة لتقواه وورعه ، وصدعه بالحق ، ولا يخشى في ذلك لومة لائم ،
وقبوله للنصح وللحق إذا ظهر له ذلك ، ويعلن رجوعه عما بدا له من خطأ إن
ظهر له ، كما في مقدمة صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- .
وقوفه ضد فكر التكفير
ولقد كان للشيخ الدور العظيم في صد الدعوة إلى فكر التكفير ولست مبالغاً
إن قلت : إن أعظم ما قام به الشيخ من جهود بعد نشره للتوحيد وإحياء السنة
النبوية ، هو الوقوف أمام فكر التكفير العصري ، الذي فاق فكر الخوارج في
هذه البلية .
ولقد كانت بداية هذا الفكر المنحرف زحفت إلى الأردن من مصر بعد ظهور شكري
مصطفى قبل قرابة ثلاثين عاماً ، ولقد وقف شيخنا -رحمه اهلف- آنذاك وقفة
يشكر عليها ، ونسأل اهلن له الأجر العظيم في تصديه لهذا الفكر وقدرته على
دحضه آنذاك .
وماكان ذلك لولا ما من به اهل- عز وجل على شيخنا من العلم الغزير وسعة
الصدر مع هؤلاء ، مع طول نفسه في النقاش بالحجة والبرهان ، وذلك فضل اهلع
يؤتيه من يشاء ، كما كانت بعض الجلسات مع هؤلاء تدوم إلى الفجر أثناء
البرد الشديد ، ولقد سجلت كثيراً من هذه الجلسات ، ونفع اهل بها كثيراً
من طلبة العلم .
ولقد كتب شيخنا في مسألة تكفير الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ،
والتفصيل في هذه المسألة ، وأيده في ذلك العلماء الفحول أمثال الشيخ
العلامة ابن باز -رحمه اهلل- والشيخ ابن عثيمين .
برع شيخنا -رحمه الله- في الفتوى ، وفي إحكام إجابات عن الأسئلة العلمية
في فنون عدة ، لا سيما في المسائل العقدية والحديثية والدعوية ، وهي
تمتاز بأنها مدعمة بالأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة والحجة الدامغة .
ولقد سجلت للشيخ دروس وفتاوى وإجابات عديدة جداً من خلال إقامته بدمشق ثم
بعمان ، وخلال أسفاره إلى الدول التي سافر إليها ، بلغت بضعة آلاف ، وهي
الآن قيد التفريغ للطبع ، وقد بدأ فيما يخص العقيدة يسر اهلى إتمامها ،
وما لم يسجل كثير من خلال اللقاءات والزيارات وعبر الهاتف وغير ذلك .
ولقد كان الشيخ مرجعاً للعلماء الكبار ، ومن ذلك أن سماحة العلامة شيخ
الإسلام والمسلمين -رحمه اهلل- أرسل إليه مرة رسالة تتعلق بمقالة عن
المسند للإمام أحمد ، ذهب فيها صاحبها إلى التشكيك بالمسند ، يطلب ابن
باز فيها من الألباني الاطلاع عليها والإفادة بما لديه في الموضوع .
وعلى كل حال ، فالرجل طويل الباع ، واسع الاطلاع ، قوي الإقناع ، وكل أحد
يؤخذ من قوله ويترك سوى قول اهلس ورسوله . . . ونسأل الله تعالى أن يكثر
من أمثاله في الأمة الإسلامية ، وأن يجعلنا وإياه من الهداة المهتدين
والقادة المصلحين ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ، وينفعنا بما علمنا إنه جواد
كريم.
المصدر: مجلة الفرقان (115/20-21).