ناصر الحديث ومجدد السنة الألباني
.. عاش وحيد العصر ، وأصبح فقيد العصر، بقلم: علي خشان
إن من رحمة الله -تعالى- بهذه الأمة أن يجدد لها أمر دينها ، فقد قال
-صلى الله عليه وسلم- " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من
يجدد لها دينها " صحيح الجامع والصحيحة 599.
قال الشيخ الألباني في الصحيحة (2/148) :
فائدة : أشار الإمام أحمد إلى صحة الحديث ، فقد ذكر الذهبي في " سير
الأعلام " (1/46) ( نقلاً عن الإمام أحمد رأي ): كل مائة سنة من يعلمهم
السنن وينفي عن رسول االله الكذب ، قال : فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر
بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي .
قلت : وقد عاش الألباني نحو تسعين سنة ، قضى منها نحو سبعين سنة يعلم
الناس السنن وينفي عن رسول اهلا الكذب ، وكتبه تشهد بذلك .
وأخرج الذهبي في السير (10/47) عن الإمام أحمد قوله : ( ما أحد مس محبرة
ولا قلماً إلا وللشافعي في عنقه منة ) .
قلت : وهذا يصدق في الألباني فما من أحد في العصر الحاضر فمن جاء بعده
وله اشتغال في علم الحديث أو الثقة فيه إلا وللألباني في عنقه منة ،
اعترف بذلك من اعترف وجحد من جحد .
وقال إبراهيم الحربي : سألت أبا عبد اهل، " يعني أحد بن حنبل " عن
الشافعي فقال : " حديث صحيح ، ورأي صحيح " وهذا ما نقوله في الألباني بعد
مصاحبة نحو ربع قرن ، سمعنا منه وحضرنا مجالسه مع غيره من العلماء
وجالسنا غيره على انفراد ، وصحبناه في سفره وترحاله وفي بيته وبيوتنا فما
رأينا -والحمد لله- إلا خيراً ، ولا عصمة لغير الأنبياء .
وقال إسحاق بن راهويه : " ما تكلم أحد بالرأي -وذكر جماعة من أئمة
الاجتهاد- إلا والشافعي أكثر اتباعاً منه ، وأقل خطأ منه ، والشافعى إمام
" .
قلت : وبالله التوفيق ، وهذا يصدق فى الألباني ومعاصريه ، ولا يعرف الفضل
لأهله إلا ذووه ، وكتب الألباني وكتبهم شاهدة بذلك ومن تتبع عرف .
قال الإمام الذهبى : " وقد صنف الحافظ أبو بكر الخطيب كتاباً في ثبوت
الاحتجاج بالإمام الشافعى ، وما تكلم فيه إلا حاسد أو جاهل بحاله ، فكان
ذلك الكلام الباطل منهم موجباً لارتفاع شأنه وعلو قدره وتلك سنة الله فى
عباده : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله
مما قالوا وكان عند الله وجيهاً * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا
قولاً سديدا ) (الأحزاب : 69-70).
قلت: وهذا يصدق فى الألباني أيضاً فما يطعن فيه إلا شانىء مبغض لأهل
السنة والأثر ، أو حاسد حاقد ونعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد .
وقال الربيع بن سليمان : وكان الشافعي -والله- لسانه أكبر من كتبه لو
رأيتموه لقلتم : إن هذه ليست كتبه ، " السير " : (10/47).
قلت : ومن رأى الألباني في مجالسه وهو يناظر العلماء ويناظرونه علم أن في
صدره علماً لم يسطر في الكتب ؟
وذكر الذهبي في السير (10/47). قال حرملة : سمعت الشافعي يقول : " سميت
ببغداد ناصر الحديث " .
قلت : لقد أفنى الألباني عمره في نصرة الحديث ليقرب السنة بين يدي الأمة
، حتى وهو على فراش الموت كان إذا صحا لحظات يضن بها أن تضيع في غير نصرة
السنة والذب عنها ، فيقول : ناولوني الجرح الأول ، أعطوني الجرح الثاني "
يعني كتاب الجرح والتعديل " هكذا كان يغالب المرض . وينصر السنة ، واهلا
ما أبصرت عيناي فيما أعلم أحداً أحرص على السنة ، وأشد انتصاراً لها ،
وأتبع لها من الألباني .
لقد انقلبت به السيارة ما بين جدة والمدينة المنورة وهرع الناس وهم
يقولون : يا ستار ، يا ستار ، فيقول لهم ناصر الحايث وهو تحت السيارة
المنقلبة : " قولوا يا ستير ، ولا تقولوا يا ستار ، فليس من أسمائه تعالى
الستار " وفي الحديث : " إن اهلم حيي ستير يحب الستر " أرأيتم من ينصر
السنة والحديث في مثل هذا الموطن في عصرنا هذا .؟ اللهم لا إلا ما سمعنا
عن عمر بن الخطاب ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما ، من سلف هذه الأمة .
وإذا كان الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم من أعلام
السنة ونجوم الهدى قد ولدوا وعاشوا في عصر السلف الصالح وعصر تدوين
الحديث وازدهاره في عصر أتباع التابعين ، وراية الإسلام خفاقة ، وبغداد
حاضرة الإسلام وأهله تعج بالعلماء ، وكذلك بقية أمصار الإسلام ، وخلفاء
المسلمين لهم دولتهم ، ويخشى بأسهم ملوك دول الكفر كلها ، إذا عاش أولئك
الأعلام في ذلك العصر الذهبي ، فإن وحيد العصر الألباني لم يتوفر له شيء
من ذلك ، بل عاش في عصر يوصف فيه من يشتغلون بالفقه ، وعلم الحديث بصفة
المفاليس ، بهذه العبارة كان والده -رحمهما اهلر تعالى- يواجهه حينما
يراه منكباً على كتب الرجال وكتب الحديث مقبلاً عليها إقبال الصائغ على
ذهبه أو إقبال الصيرفي على دراهمه يقلبها ، يبين الزيف من الصحيح ، في
عصر كثر فيه الكذب ، وأقبل الناس على الدنيا وكنوزها ، ولكن الشيخ زهد في
الدنيا وما فيها وأقبل على كنوز من نوع آخر ، فكانت كنوزه -والله- أعظم
وأنفع للناس من معادن الذهب والفضة ومن اللؤلؤ والمرجان ، إنها كنوز
السنة ونفائسها ، لقد من اهلظ على الأمة بهذا الفذ فنصر السنة ونفض عنها
غبار القرون ، وأخرجها لآليء تنير للعيون ، وسطرها درراً ، وحارب بها
بدعاً ، ورد بها عن الأمة شراً ، ودرأ بها شرراً وذب عنها ما ليس منها ،
وذاد عن حماها الدخيل والموضوع فأرسى للسنة أعلامها ، ووطأ للناس أكنافها
، وماز صحيحها من سقيمها ، ومعلولها من سليمها ، وشاذها من محفوظها ،
ومنكرها من مقبولها ، وعاد بها إلى فهم السلف الصالح خير القرون وحارب
بها المؤولين ، والمشبهين ، والمقلدين الجامدين ، والمستبدين الظالمين ،
والعلمانيين الوقحين ، والمبتدعين الهدامين ، فهو يبني ويهدم ، يبني
السنن ، ويهدم البدع ، رفع السنة فرفعته ، وأعلى شأنها فأعلت شأنه ، بعد
قرون عجاف تكالبت فيها الأمم على الإسلام وأهله ، وتقاعست فيها الهمم فلا
ناصر ولا معين إلا رب العالمين ، عاش الألباني للسنة فعاش بها ، وأراد أن
تكون للسنة هيبتها فعلته هيبة السنة ، ولم يقدم عليها قول أحد كائناً من
كان ، فلم يتقدم عليه أحد كائناً من كان ، فلولا السنة ما عرفنا الألباني
، ولولا الألباني ما عرفنا السنة مما ليس من السنة ، عرفها فعرفنا بها ،
فعرفتنا به -رحم اهله الألباني- ، لقد كان جهبذاً حقاً ، لقد كان من
الجهابذة الذين أشار إليهم الإمام الجليل عبد اهلا بن المبارك لما قيل له
: " هذه الأحاديث المصنوعة ؟ " قال : " يعيش لها الجهابذة ، ولكن
الجهابذة قليلون " .
قال ابن الجوزي -رحمه الله- : لما لم يمكن لأحد أن يدخل في القرآن ما ليس
منه أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول الله ، ويضعون عليه ما لم يقل ، فأنشأ
اهلم علماء يذبون عن النقل ، ويوضحون الصحيح ، ويفضحون القبيح ، وما يخلي
الله منهم عصراً من الأعصار غير أن هذا الضرب قل في هذا الزمان فصار أعز
من عنقاء مغرب :
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً *** فقد صاروا أعز من القليل
فإذا كان هذا في عهد ابن الجوزي فكيف في عهدنا ؟؟
فانظر -رحمك اهلا- كم من المحدثين نصب نفسه لبيان الضعيف والموضوع وكان
بحق جهبذاً ، ولا تحسبن أن الجهبذ لا يخطيء ، فلا يسلم من الخطأ أحد إلا
الأنبياء الذين يتنزل عليهم الوحي -عليهم الصلاة والسلام- .
كم عدد الجهابذة بعد ابن الجوزي ؟؟ إنهم قليلون جداً بالنسبة للمشتغلين
بالعلم فضلاً عن الأمة كلها ! كم أخرجت الأمة أمثال ابن تيمية ، وابن
القيم ، والذهبي ، وابن كثير ، وابن حجر العسقلاني ، والعراقي وأمثال
هؤلاء ؟؟
وفي الأعصر الأخيرة أقفرت الأرض حتى أصبح بعض من يشتغل بالحديث كحاطب ليل
، فضلاً عن زيغ في العقيدة وتأويل في الصفات ، وتقليد في الفقه ، وتصوف
في السلوك يسوغ كل بدعة ؟ ولكن اهلف الحكيم الخبير الرؤوف الرحيم الذي
يحيي الأرض بعد موتها بوابل صيب ، كذلك يحي القلوب والنفوس بسنة خاتم
الأنبياء والمرسلين ، فيهيء للسنة ، من شاء من الجهابذة يذبون عنها
ويرفعون شأنها ، ولا شك أن الألباني -رحمه الله- جهبذ هذا العصر بلا
منازع ، ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ( الحديد
: 21 ).
لقد استحق الألباني بحق أن يسمى ناصر الحديث ، ومن عجب أن اسمه الذي
يدعوه به الناس " ناصر الدين " ورحم اهلن القائل الذي ذب بعض الشيء عن
الشيخ الألباني فقال :
فما عسى أن يقول الشعر في رجل *** يدعوه حتى عداه ناصر الدين
وغفر اهل لمن أخطأ في حق الشيخ الألباني ، ولن يضر الألباني كلام شانئيه
ومبغضيه وحاسديه :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ورحم اهلح أبا تمام إذ قال :
وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود
لولااشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طيب عرف العود
فهل ضر آدم حسد إبليس ؟! وهل ضر نوحاً أذى قومه ؟؟ وهل ضر إبراهيم نار
الآخرين ؟؟! وهل ضر موسى ما قالوا عنه ؟؟ وهل ضر عيسى افتراء المفترين
وغلو المغالين ؟؟ وهل ضر محمداً -صلى الله عليه وسلم- شنآن الشانئين ،
لقد نصر الله أنبياءه ورسله (أجمعين ) : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن
الله قوي عزيز ) (المجادلة : 21) .
إن أصحاب السنن يدعون إلى تحكيم الكتاب ، فالسنة تفصيل للكتاب ولذلك
يعاديها أهل الأهواء .
فأهل الأهواء متهوكون ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) وأهل
السنة والحديث هم الهداة المهتدون وهم مصابيح الدجى يدعون إلى سنة
المصطفى التي تلقتها الأمة بالقبول فهم على يقين من ربهم ، وأهل الاهواء
حيارى يخبطون خبط عشواء يميناً ويساراً ، ومهما يكن من أمر فإن محمد ناصر
الدين بن نوح الألباني قد اقترن اسمه بأسماء أعظم أعلام السنة وعلمائها
وناصريها وفقهائها ، كمالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن
والدارمي والدارقطني ، كما اقترن اسمه بكل مجددي السنة عبر العصور كابن
تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير وابن حجر والعراقي ، ولا أدل على ذلك
من النظر في مؤلفات الشيخ الألباني وتحقيقاته التي ملأت الدنيا وما خلف
من مخطوطات .
وإذا كان رسول اهلف -صلى الله عليه وسلم- قال للأعرابي الذي سأله : " متى
الساعة ؟؟ . فقال له رسول اهلر -صلى الله عليه وسلم- : " ما أعددت لها "
. قال : حب الله ورسوله . قال : " أنت مع من أحببت " . متفق عليه .
فكيف بمن أحب رسول اهل -صلى الله عليه وسلم- ونصر سنته وذب عنها وكيف بمن
أحب أصحاب رسوله وأخرج أقوالهم إلى الناس ؟؟ .
لقد كان الشيخ الألباني فذاً في كل شيء في التخريج والتحقيق والاتباع
والمناظرة في نصرة السنة والذب عنها .
أخرج الذهبي في السير : (10/49) : وقال ابن عبد الحكم : ما رأيت الشافعي
يناظر أحداً إلا رحمته ، ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك ،
وهو الذي علم الناس الحجج .
وروي عن هارون بن سعيد الأيلي قال : لو أن الشافعي ناظر على أن هذا
العمود الحجر خشب لغلب لاقتداره على المناظرة .
قلت : هكذا كان الألباني -واهل4- ، ما رأت عيناي مناظراً مثله -ومعاذ
اهلظ- أن يناظر على باطل ؟؟ واهل لقد رحمت الكثيرين وهو يناظرهم ولقد
أشفقت كثيراً وأنا أناظره ، وكنت أتفق مع أخينا محمد عيد العباسي على بعض
المسائل ، نرتب كيف نبحث مع الشيخ فيما كنا نخالفه فيه ، فما هي إلا
لحظات حتى يقوض لنا ما بنينا ، فنصير إلى قوله ، ونرى الحق معه ، ومعاذ
اهلي أن نقلد تقليداً أعمى ، إنما هو الاتباع على بصيرة.
لقد كان الشيخ -رحمه اهله- يقتحم خصمه في المناظرة ولايستطيع أحد أن
يقتحمه لهيبته وسعة علمه وتبحره في معرفة السنن والآثار وما صح مما لم
يصح . بالإضافة إلى حصافة فكر وثاقب نظر ورجاحة عقل ، وثبات قلب ، وقد
كثر أعداؤه بسبب غلبته في المناظرة ولا يتسع المقام لبسط شيء من ذلك الآن
، ولقد تعامى كثيرون من أهل العلم عن فضل الألباني لغلبته في المناظرة ،
وزعم بعضهم أنه ذو حدة وقسوة وطنطوا بذلك وأجلبوا ، ولكن لو سلمنا لهم
جدلاً بما يقولون فهل ينصفون الألباني ؟؟ ولو عددنا معهم سيئات الألباني
حسب زعمهم ؟؟ فهل يستغفرون ويسترون سيئته وينشرون حسنته ؟؟ فإذا كان رسول
اهلو -صلى الله عليه وسلم- أوصى معاذاً -رضي اله عنهر- حينما بعثه إلى
اليمن " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق
حسن " . فهل اتقى الهف هؤلاء في الألباني ، وهل اتبعوا السيئة الحسنة وهل
خالقوا الألباني وأحبابه بالخلق الحسن ؟؟
وإذا كان الميزان عند اهلو -تعالى- : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ثم
قال معقباً : ( ذلك ذكرى للذاكرين ) يريد منا أن ننهج هذا المنهج في
معاملة الناس ، ولكن الكثيرين ميزانهم مع الشيخ الألباني خاصة : إن
السيئات يذهبن الحسنات ، ومن قرأ كتب خصومه عرف هذه الحقيقة المرة ، وإنا
لله وإنا إليه راجعون .
ونعوذ بالله من شر من رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها ، ربنا لا تجعل
في قلوبنا غلاً للذين آمنوا .
وفي السير : (10/41) : قال الشافعي -رحمه الله- : " بئس الزاد إلى المعاد
العدوان على العباد ".
قال يونس الصدفي : قال لي الشافعي : ليس إلى السلامة من الناس من سبيل ،
فانظر الذي فيه صلاحك فالزمه.
بهذا كان يعمل الألباني -رحمه اهلا- فلا يهتم بمن مدحه ولا بمن قدحه ،
وإن همه مرضاة الله -تعالى- وما كان يرد إلا من أجل إثبات حق أو إبطال
باطل ، فلا تهمه نفسه وإنما يقسو إذا قسا من أجل إيضاح الحق حيث يعتقد
أنه يجب ذلك .
المصدر: مجلة الشقائق (26 / 22 – 23).