من مناقب العلامة الألباني، بقلم:
محمد عيد العباسي
وأخيراً توفي أستاذنا الإمام
العلامة محمد ناصر الدين الألباني ، بعدما أمضى نحو سنتين يعاني من المرض
، بل عدة أمراض وأسلم روحه إلى بارئها ، وانتقل إلى جوار ربه الكريم
الرحيم .
لقد ذاع اسم الشيخ ، وانتشر ذكره بين طلبة العلم في مختلف الأقطار
والأمصار ، ووضع له القبول بين الناس ، وما ذلك إلا لصفات اتصف بها وخصال
اختص بها ، مما جعله أحد العلماء الربانيين والمجددين المصلحين في هذه
الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس .
وحيث إني أحد تلامذته المقربين وقد لازمته منذ خمسة وأربعين عاماً فقد
عرفت منه هذه الصفات بجلاء تام ، ولذلك كان يزداد حبي له وتقديري وإجلالي
يوماً بعد يوم رغم الحملات الشديدة التي كان يشنها عليه خصومه وشانئوه ،
ورغم الإشاعات الكثيرة التي كان يذيعها مخالفوه وحاسدوه.
والحديث عنه وعن صفاته طويل وشيق ، ولا تتسع له هذه المقالة ، فأكتفي
بذكر بعضها راجياً الله -تعالى- أن ييسر لي كتابة كتاب في ذلك أسرد فيه
ذكرياتي عنه وتحليلاً لأخباره ، ليفيد من ذلك طلبة العلم والناس ، فمن
صفاته الجميلة الحميدة -رحمه اهلد تعالى-:
1- إخلاصه لله -تبارك وتعالى- وقصده وجهه الكريم في عمله وعلمه :
وقد يقول قائل : إن الإخلاص سر من أسرار اهلل -تعالى- لا يطلع عليه إلا
اهل: ، فكيف يعرف ؟
والجواب : إن الأمر كما قلت ، ولكن الإخلاص له علامات وأحوال تدل عليه .
ويستطيع الدارس والملاحظ تبينها إذا أوتي فراسة وذكاء وخبرة وتجربة .
أرأيت أمر الساعة ؟ فقد اختص اله -تعالى- نفسه بمعرفتها ، ولكنه جعل لها
علامات وأشراطاً ، يحكم المتأمل والناظر بقرب وقوعها الوشيك جداً .
وهكذا ، فكان الشيخ في سلوكه العام والخاص وابتعاده عن المحرمات
والمكروهات ، ومسارعته إلى الطاعات ، وصبره على البليات مثالاً يحتذى ،
واستمر على ذلك طول عمره ، لم تفتنه المناصب ، ولم يغره المال ، ولم
تجتذبه الدنيا ، وليس لذلك تفسير عند العقلاء إلا في الإخلاص والصدق مع
اهلط وابتغاء وجهه .
كنا نرافقه في أسفاره إلى بعض المدن السعودية ، وإلى الأردن في سيارته
للدعوة والتدريس وزيارة الإخوة ، فكان كلما احتاجت السيارة لملئها من
البنزين يبادر بدفع ثمنه ، ونحاول جهدنا أن نسبقه فما كان يسمح لنا ، بل
يعزم علينا ألا نفعل رغم حرصنا ، ويقول : دعوا تكاليف السيارة علي لتكون
خالصة لله -تبارك وتعالى- وفي خدمة دينه .
2- جده ودأبه وصبره على المطالعة والدراسة والتعليم والدعوة والكتابة
والتأليف :
فقد كان ينفق الساعات الطوال التي تنوف على العشر ساعات يومياً في مطالعة
الكتب والرسائل المطبوعة والمخطوطة في المكتبة الظاهرية وغيرها ، ونسخ ما
يحتاجه منها ، وكان يأتي إلى ظاهرية دمشق منذ أن تفتح أبوابها ، ويستمر
حتى نهاية الدوام المسائي ، وكان يطلب موظفوها منه إذا حان وقت انصرافهم
، وأراد أن يكمل بحثه أن يغلق أبوابها إذا أراد الانصراف ، وكان كثيرون
من روادها يظنونه موظفاً من موظفيها لطلول مكثه فيها .
وقد بلغ الذروة في الصبر والتحمل حينما صام أربعين يوماً متواليات ليلاً
ونهاراً عن كل شيء إلا الماء تطبباً ، وطلباً للشفاء من بعض الأمراض التي
كان يعاني منها ، بعد أن قرأ كتاباً لأحد الأطباء يشرح فيه أن كثيراً من
الأمراض يشفى منها بالصوم ، فكان -رحمه الله تعالى- يواظب خلال هذه المدة
على عمله ودروسه وتأليفه ، ويمارس كل النشاط الذي كان يقوم به في الأيام
العادية ، بما في ذلك الأسفار وإلقاء الدروس والمحاضرات ، وإن هذا -لعمر
اهلن- قمة في مضاء العزيمة ، والصبر على المكاره ، وعجيبة من عجائب الدهر
.
3- زهده وميله للبساطة وعدم التكلف :
وهذا خلق من أخلاق النبوة ، فقد آثر الآخرة على الأولى ، ولذلك كان يقنع
بالقليل من الرزق ، ويكتفي بالميسور من الطعام والمتاع ، ولا يعتاد
التنعم والرفاه ، كما زهد في المناصب ، وترفع عن التزلف لأصحاب الجاه
والغنى والسلطان ، بل كان عزيز النفس لا يطلب من أحد شيئاً ولو كانت به
حاجة ، كما كان يؤثر الابتعاد عن المناسبات الرسمية والأضواء ، ويؤثر
البساطة والعيش مع كتبه وطلابه ودروسه ، ولا يتركها إلا مكرهاً ، كما أنه
تجنب الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية مع أنه دعي للظهور فيها ، وذلك
لما يرى فيها من التكلف والتصنع الذي يمجه بفطرته ، ولما يوجد في كثير من
وسائل الإعلام من تحريف وبتر للكلام وتشويه ومخالفة للأمانة في النقل .
4- أمانته العلمية وإنصافه :
وهذه صفة عزيزة تقتضي من العالم الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه ، والتخلي
عن الهوى والغرض ، وهي أمور صعبة وشديدة على النفس ، كما تقتضي منه إذا
سئل عن مسألة لا يعرفها أن يعترف بعدم معرفته لها وكل ذلك من الأمور التى
أمر بها الإسلام ، ويكفى فيها قوله -تعالى- : ( ولا تقف ما ليس لك به علم
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك ان عه مسئولا ) ( الإسراء : 36 ).
كان أستاذنا إذا سئل عن بعض المسائل -وخاصة تلك التي تتعلق بالفرائض
والمواريث- لا يجيب ، ويقول : لا أدري ، وليس لي فيها دراسة ، كما كان
يطلب ممن يطلع على خطأ أو وهم في كتبه أن يبين له ذلك ، ويدل عليه ، وقد
ذكر بعض هؤلاء في بعض كتبه ، وشكرهم على صنيعهم ، وأخذ برأيهم ، وكان
يعلن ترحيبه بذلك بشرط أن يكون المنتقد مخلصاً ويعرض ذلك بأدب الإسلام
والحجة والبينة .
وكان دائم المطالعة والمراجعة للجديد من الكتب يستفيد منها ، ولذلك كان
دائم التعديل والإضافة للطبعات الجديدة من كتبه ، ويعلن ذلك في الدروس
والكتب ، ولا تحمله العزة بالإثم والكبر على الإصرار على الخطأ وكتمان
الحق ، بل كان يتراجع عن خطئه بكل سهولة وسماحة ، وترى ذلك -مثلاً- في
مقدمة كتابه : " مختصر الشمائل المحمدية " ومقدمة كتابه : " سلسلة
الأحاديث الضعيفة " .
وبالإضافة إلى ذلك كان في حكمه على الأشخاص -قدماء ومعاصرين- يميل إلى
الانصاف والعدل كما أمر اهلخ -تعالى- ويجنح إلى التوسط والاعتدال ، فلا
يبالغ في الثناء ، كما لا يفرط في الذم ، وأكبر مثال على ذلك رأيه في
الكاتب الإسلامي الذي كثر فيه القيل والقال بين المغالين فيه والجافين
عنه ، أعني الأستاذ سيد قطب -رحمه اهلت تعالى- ، وله شريط قال رأيه فيه
بإنصاف ودون تحامل أو حقد ، أو مجافاة للحقيقة ، أو محاباة لأحد على
حسابها .
5- سعة الصدر والسماحة وخاصة في المناظرة والمناقشة :
كان شيخنا -رحمه الله تعالى- نادرة زمانه في المناظرات العلمية
والمناقشات الفكرية ، فكان يبدأ نقاشه بتحرير موضع الخلاف بينه وبين
مناقشه ، لأن كثيراً ممن يتناقشرن يكون بينهم خلاف لعدم مراعاتهم بيان
ذلك أو لاختلافهم في المصطلحات ، فيضيع جهدهم سدى ، ويكتشفون فيما بعد
أنهم على وفاق ، ثم يطلب من محاوره الكلام وعرض رأيه مع بيان الدليل
والبرهان ، ويستمع بكل أدب وإصغاء وانتباه إلى حديثه ودون أن يتدخل أو
يقاطع ، وما أكثر من رأينا من المتناقشين يكثر المقاطعة والتدخل ! ويكون
فكره مهتماً بالرد ، فيصرفه ذلك عن الانتباه والوعي لكلام محاوره ، فيحدث
الشجار والخصام ، فإذا انتهى محاوره من عرض رأيه وبيان دليله ، أخذ الشيخ
بتلخيص كلام محاوره ، ثم رد عليه نقطة نقطة بكل وضوح وجلاء ، وإذا أورد
الآخر شبهة جديدة ، أو جواباً على كلامه عاد فاستمع إليه ئم أجابه ،
وهكذا ، وقد حضرت بعض مناظراته ، فكان محاوره كثيراً ما يحيد عن الجواب
حينما يجد الحجة القوية ، فيعيده الشيخ إلى الموضوع والنقطة التي وصل
الكلام إليها بكل لطف وأدب .
وقد تعلمنا منه أدب الحوار ، وطريقة النقاش ، وإن كنت أعترف أنني وغيري
لم نبلغ معشار ما كان عليه من الهدوء والسماحة والانضباط.
6- نشاطه وحماسه فى الدعوة ونشر العلم :
كانت الدعوة السلفية في بلاد الشام قبله ينقصها الفهم الواضح الشامل
السديد ، كما كانت تفتقد إلى الحيوية والنشاط والاندفاع اللائق بها ، فقد
كان هناك بعض المشايخ والدعاة المؤمنين بعقيدة السلف ومنهجهم في الجملة ،
ولكن كان ينقصهم الوضوح والصراحة والجرأة ، فكانوا يبثون الدعوة بين
محبيهم وتلامذتهم في نطاق ضيق ومحدود وعلى تخوف واستحياء ، كما كانوا غير
متمكنين في علم الحديث ، فكانت الدعوة محصورة بين القليل من طلاب العلم ،
وفيها بعض الغبش .
ولما جاء أستاذنا الألباني جهر بها بين ظهراني الناس جميعاً ، وأعلن بكل
قوة وجرأة ، ولم يخشى في اهلك لومة لائم ، وتحمل في سبيل ذلك أنواعاً من
الايذاء والاستنكار والإشاعات الباطلة والحملات الظالمة ، والسعي للوشاية
به إلى الحكام ، وكثيراً ما منع من الفتوى والتدريس ، والاجتماعات ،
واستدعي للجهات الأمنية ، كما أنه قد سجن مدة طويلة أكثر من مرة ، وأخرج
من أكثر من بلد ، ومع ذلك فقد ظل ثابتاً كالطود ، لا يضعف ، ولا تلين له
قناة ، ولا تنثني له عزيمة حتى لقي ربه -تبارك وتعالى- .
كان يجول في المدن والبلدان داعياً إلى منهج السلف واتباع الدليل ، يجادل
ويناظر ، ويكتب ويدرس ، دون خور أو ضعف ، ودون كلل أو ملل .
وبمثل ذلك تنتصر الدعوات وتنتشر ، وهكذا فقد انتشر ما كان يحمله من
الدعوة إلى التوحيد واتباع السنة وإيثار الدليل ، ومحاربة البدع
والمحدثات ، ونشر الأحاديث الصحيحة ، ومحاربة الأحاديث الضعيفة والموضوعة
، وتقريب السنة إلى الأمة ، كما انتشر تلاميذه ومحبوه في كل مكان ، وصارت
الدعوة إلى منهج السلف حديث الناس ، وموضع اهتمامهم ودراستهم .
هذه جوانب قليلة من صفات الشيخ الجليل ، وهي غيض من فيض : ( ذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) (الجمعة : 4) .
رحم الهي أستاذنا الألباني وإخوانه الذين سبقوه ، وخاصة سماحة الإمام
العلامة صديقه الوفي المخلص الحميم عبد العزيز بن عبد الهص بن باز ،
وأسكنهم جميعاً فسيح جناته ، وخلفنا من بعده على خير ، وآجرنا في مصابنا
، وعوض المسلمين عما فقدوه خير العوض ، إنه أكرم مسؤول .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين .
المصدر: مجلة البيان (144/144).