لقد علم المتتبعون لأخبار الصحف ،
قصة ذلك الرجل المصري الذي قتل في الإسكندرية طفليه الصغيرين غرقاً في
البحر ، وأن محكمة الجنايات فيها حكمت عليه بإعدامه مستندة في ذلك على
مادة في القانون تدل على ذلك بعمومها ، ولكن المحكمة لما أحالت هذا الحكم
إلى مفتي الإسكندرية فضيلة الشيخ أحمد بن يوسف رفضه ، وأفتى بما نصه : "
. . . لا يجب عليه القصاص شرعاً ، لأنه لا يقتص من الوالد في قتل ولده ،
إذ أن الوالد سبب في إحيائه فلا يكون الولد سبباً في إفنائه " .
ثم ساق ، حضرة المفتي نصوصاً من المذهب الحنفي ، يدعم بها فتواه هذه ،
مؤيداً لها بقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا يقاد الوالد بولده ".
وعلى الرغم من وضوح هذه الحجة فقد أصرت المحكمة على حكمها السابق ، ولم
تسلم لحكم هذا الحديث الشريف ، ولا غرابة في ذلك فهي إنما تحكم بحكم
القانون لا بحكم الله ورسوله .
وإنما الغرابة أن ينتصر لها بعض كبار الشيوخ ، فقد نشرت جريدة الأهرام
المصرية تاريخ 7/ 10/ 1954 م هذه الحادثة ونص المحكمة ثم فتوى المفتي
فيها ، ثم عقبت عليها بنشر آراء رجال الشرع والقانون فيها ، ومن ذلك رأي
حضرة الشيخ حسن مأمون ، وهو من كبار رجال الشرع ، وقد جاء في كلامه ما
نصه : " . . . .ومحكمة الجنايات تطبق هذا القانون وليست ملزمة بتطبيق
نصوص الشريعة الإسلامية " !
ومنها ما نقلته تلك الجريدة عن حضرة الشيخ محمود شلتوت في كلام له في هذه
الفتوى :
" وأنا شخصياً أرجح مذهب القائلين بالقصاص في هذه الحالة وذلك عملاً
بعموم الآيات . . . . . . . . . وأما الحديث الذي يروى في هذا المقام وهو
" لا يقاد الوالد بولده " فإنه لم يثبت ، وطعن فيه بعض المحدثين " .
قلت : وليس يهمني الآن الكلام على فظاعة تلك الجناية ، ولا بيان ما في
الكلام المنقول عن الشيخ حسن من الجناية على الشريعة الإسلامية ، وإنما
القصد بيان خطأ الشيخ محمود شلتوت في تضعيفه للحديث المذكور ، وترجيحه
حكم المحكمة على فتوى المفتي ، وتحقيقاً لما ادعيته .
أقول ومنه تعالى استمد العون والعصمة :
من المعلوم عند المشتغلين بالسنة المطهرة أن الحديث الواحد قد يكون له
عدة طرق ، وقد تكون كلها ضعيفة ، وقد يكون ضعفها يسيراً بحيث أنه ينجبر
بكثرة الطرق ، لخلوها من متهم أو متروك ، وعليه فقد يتفق أن يروي بعض
الحندثين مثل هذا الحديث ، لكن من طريق واحد ضعيف ، أو من طرق ضعيفة لا
يتقوى الحديث بها عنده ، فيحكم عليه من أجل ذلك بالضعف وهو معذور ، بينما
يروبه غيره من طرق أخرى صحيحة أو تصلح للاعتضاد والتقوي بها ، فيحكم بسبب
ذلك على الحديث بالصحة وهو مصيب ، ولكن من لا علم عنده يظن أن هذا
الاختلاف منشأه من التباين في الرأي ، وإنما هو منشؤه من التباين في
العلم وسعة الحفظ كما بينت.
فإذا عرف هذا فلا يليق بالعالم المحقق أن يضعف حديثاً ما ، لمجرد تضعيف
بعض المحدثين له ، لا سيما إذا كان فيهم من صححه ، لأن تضعيفه والحالة
هذه يكون اتباعاً للهوى ، وهو سبب الضلال كما لا يخفى ، بل عليه أن يتبع
طرقه وأسانيده من مصادر السنة الموثوقة ، فإن لم يجد له إلا طريقاً
واحداً ضعيفاً ، أو وجد له طرقاً لا يتقوى بعضها ببعض صح له حينئذ أن
يتسمك بقوله من ضعف الحديث من المحدثين .
والذي أعتقده أن الشيخ محمود شلتوت لم يسلك هذه الطريق العلمية في حكمه
على الحديث بالضعف ، بل غلب على رأيه العمل بالعموم الذي أشار إليه ،
فلما رأى معارضة الحديث له تخلص منه بتقليده لمن ضعفه من المحدثين ، أقول
هذا لأنه لو فعل ما أشرنا إليه من التتبع لما وسعه إلا الحكم على الحديث
بالصحة وتخطئة من ضعفه ، ذلك لأن الضعف المزعوم إنما هو بالنسبة لبعض
طرقه فقط ، وأما سائرها فلا علة فيها ، ولذلك صححه جماعة من المتقدمين
والمتأخرين ، من المحدثين والفقهاء وغيرهم -كما سيأتي ذكرهم-.
وإلى القاريء الكريم تفصيل هذا الإجمال في عرض مبسط يصلح مثالاً لتطبيق
الطريقة العلمية المشار إليها في الكلام السابق :
فاعلم أن الحديث المذكور ورد عن ثلاثة من الصحابة : عمر بن الخطاب ،
وسراقة بن مالك ، وعبد اهلي بن عباس :
1- أما حديث عمر ، فله خمسة طرق ، وهي :
الأول : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " قتل رجل ابنه عمداً فرفع
إلى عمر بن الخطاب فجعل عليه مائة من الإبل : ثلاثين حقه ، وثلاثين جذعة
، وأربعين ثنية ، وقال : لا يرث القاتل ، و لولا أني سمعت رسول اهلض -صلى
الله عليه وسلم- يقول : " لا يقتل والد بولده " لقتلتك " .
أخرجه أحمد رقم (346) والترمذي (2/307 بشرح التحفة) وابن ماجة (2/146)
والدارقطني (ص 347) من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو به.
قلت : والحجاج مدلس وقد عنعنه ، لكن قد تابعه ثقتان :
أحدهما : محمد بن عجلان ، أخرجه عنه الدارقطني والبيهقي في سننه الكبرى
(8/38) ، وهذا وحده إسناد حسن ، فكيف إذا انضم إليه متابعة الحجاج ،
والمتابعة الآتية ؟ وقد أخرجه البيهقي في " المعرفة " أيضاً كما في " نصب
الراية " للحافظ الزيلعي (4/ 339) ونقل عنه أنه قال : " وهذا إسناد صحيح
" وأقره الحافظ ابن حجر العسقلاني ، فقال في " تلخيص الحبير " (ص 336 طبع
الهند ) : " وصحح البيهقي سنده لأن رواته ثقات " .
والآخر عبد اهل بن لهيعة قال : حدثنا عمرو بن شعيب به مقتصراً على الحديث
المرفوع .
أخرجه أحمد رقم (147 ، 148) وقال المعلق عليه فضيلة الشيخ أحمد محمد شاكر
" إسناده صحيح " ! وهذا منه على ما جرى عليه في هذا الكتاب وغيره من
تصحيح أحاديث ابن لهيعة ، ونحن نوافقه على هذا فيما إذا لم يتفرد ابن
لهيعة بالحديث لأنه ثقة في نفسه ، لكن في حفظه ضعف فيؤمن هذا منه عند
المتابعة ، كما في هذا الحديث كما لا يخفى .
الطريق الثاني : عن مجاهد قال : حذف رجل ابناً له بسيف فقتله ، فرفع إلى
عمر فقال : لولا أني سمعت رسول اثه -صلى الله عليه وسلم- يقول : " لا
يقاد الوالد من ولده " لقتلتك قبل أن تبرح .
أخرجه أحمد (رقم 98) ورجاله ثقات ، غير أن مجاهداً لم يسمع من عمر .
الطريق الثالث : عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعاً أخرجه أبو
بكر بن الجصاص في " أحكام القرآن " (1/168 الطبعة البهية) ورجاله موثقون
، غير عبد اهلي بن سنان المروزي ، فإني لم أجد من ترجمه ، وفي سماع سعيد
من عمر كلام .
الطريق الرابع : عن عمر بن عيسى القرشي ، عن ابن جريج ، بسنده عن عمر نحو
رواية الطريق الأول .
أخرجه الطبراني ، وابن عدي في " الكامل " ، والعقيلي في " الضعفاء "
والحاكم في " المستدرك " (2 / 216 ، 4 / 368) وقال: " صحيح الإسناد "
ورده الذهبي بقوله : " بلى عمر بن عيسى منكر الحديث ".
الطريق الخامس : عن الحكم بن عتيبة ، عن رجل يقال له : عرفجة ، عن عمر
مرفوعاً به .
أخرجه البيهقي (8 / 39) وعرفجة هذا الظاهر أنه ابن عبد الله الثقفي ، وقد
أورده ابن حبان في الثقات ، وكذا العجلي وقال : " كوفي تابعي ثقة " وبقية
رجاله ثقات غير أبي محمد عبد الرحمن بن يحيى الزهري القاضي المكي شيخ
البيهقي ولم أجد له الآن ترجمته .
فهذه طرق خمسة لا يشك الواقف عليها في ثبوت الحديث مرفوعاً من طريق عمر
وحده ، ولهذا قال الجصاص عقب الطريق الأولى :
" وهذا خبر مستفيض مشهور ، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من
غير خلاف من واحد منهم عليه فكان بمنزلة قوله : ( لا وصية لوارث ) ونحوه
في لزوم الحكم به وكان في خبر المستفيض المتواتر " .
2- وأما حديث سراقة :
فأخرجه الترمذي والدارقطني من طريق إسماعيل بن عياش ، عن المثنى بن
الصباح ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، عن سراقة قال : حضرت رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه .
وأعله الترمذي بقوله : " المثنى بن الصباح يضعف في الحديث ، وقد روى هذا
الحديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- ، وقد روي عن عمرو بن شعيب مرسلا ، وهذا حديث فيه
اضطراب ، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به
، وإذا قذفه لا يحد " .
قلت : وأنا أرجح أن الاضطراب المذكور لا يضعف الحديث ، لاتفاق ثلاثة من
الرواة على روايته موصولاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن
الخطاب ، فالحديث حديثه ليس مرسلاً ، ولا من حديث سراقة ، ويقوي ذلك
الطرق الأربعة الأخرى عن عمر ، ولو أن الترمذي -رحمه اهلا تعالى- وقف على
هذه الطرق المسندة ، وعلى رواية ابن عجلان وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب
بسنده المتصل عن عمر لما أعل الحديث بالاضطراب ، فتأمل وتذكر ما قلته بين
يدي هذا التحقيق يتبين لك صوابه -واهلأ تعالى الهادي- .
3- وأما حديث ابن عباس ولفظه : " لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقتل
الوالد بالولد " .
فأخرجه الترمذى ، والدارمى (2 / 190 طبع دمشق) ، وابن ماجه ، والدارقطني
، والبيهقي من طريق إسماعيل بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن طاووس ، عن
ابن عباس مرفوعاً .
وقال الترمذي : " لا نعرفه بهذا الإسناد مرفوعاً إلا من حديث إسماعيل من
مسلم ، وإسماعيل بن مسلم المكي تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه " .
قلث : فضعفه لس لتهمة فيه بل لما يخشى من سوء حفظه ، وذلك يزول لمجرد
متابعة غيره له إذا وجد وقد كان ، فقد قال الحافظ ابن حجر في " التلخيص "
:
" لكن تابعه الحسن بن عبيد اهلل العنبري ، عن عمرو بن دينار -قاله
البيهقي- " .
قلت : وهذه متابعة قوية ، فإن العنبري هذا ثقة ، وقد أخرجه عنه الدارقطني
بسند صحيح إليه ، وبقية رجال السند أشهر من أن يذكروا ، فصح إسناد الحديث
عن ابن عباس -والحمد لله على توفيقه-.
وقد تابعه سعيد بن بشير أيضاً أو قتادة ، أخرجه الحاكم في المستدرك
(4/369) عن سعيد : حدثنا عمرو بن دينار به ، وسكت عليه هو والذهبي ،
وسعيد هذا حسن الحديث لا سيما عند المتابعة ، وأخرجه عنه الدارقطني أيضاً
إلا أنه أدخل بين سعيد وعمرو بن دينار قتادة وكذلك أخرجه البزار ، ولعله
الصواب .
فتبين أن الحديث عن ابن عباس صحيح أيضاً لكن من غير طريق الترمذي وفي هذا
إشارة أيضاً إلى ما أشرت إليه آنفاً وإلى أن مجال الاستدراك على
المتقدمين واسع ، إذ أنك رأيت أن الترمذي قال : لا يعرف هذا الحديث إلا
من طريق إسماعيل بن مسلم الضعيف ، مع أن غيره قد رواه وعرفه من طريق أخرى
وصحيحة .
وخلاصة القول : إن حديث ابن عباس هذا بمتابعاته إذا ضم إلى حديث عمر
بطرقه الخمسة ، فلا شك في إفادة ذلك صحة الحديث صحة لا يداخلها شك ولا
ريب فلا جرم أن عمل به جماهير من العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم ،
كما في سبل السلام ، وغيره وصححه ابن الجارود كما قال الحافظ في " بلوغ
المرام " وأجاز العمل به شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله تعالى- وفي ذلك
إشارة منه إلى تصحيحه للحديث ، وهو من هو في التحقيق ، كما لا يخفى على
العارفين به ، وكذلك قواه من محققي المتأخرين العلامة صديق حسن خان ،
وقال بعد ذلك في " الروضة الندية " (2 / 302) :
" وقد أجمع أهل العلم على ذلك لم يخالف فيه إلا البني ، ورواية عن مالك "
.
وإذ قد علمت أن الحديث صحيح - يتبين لك حينئذ أن تمسك الأستاذ محمود
شلتوت فيما رجحه (شخصياً!) من قتل الوالد بالولد -بعموم الآيات- ضعيف لا
حجة فيه لأن النص الخاص يقضي على العام كما تقرر في الأصول ، ومن هذا
القبيل قوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا يقتل مسلم بكافر " فهذا الحديث
، والحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه من المخصصات لتلك العمومات .
( وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) (ق:37)
ناصر الدين الألباني
أبو عبد الرحمن
دمشق 17/ 2/ 1774 هـ
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي ( 20 / 775 – 781 ).