بقلم : الشيخ / محمد ناصر الدين
الألباني
قرأت في العدد السادس من المجلد السادس من مجلة " المسلمون " الغراء كلمة
الأستاذ الطنطاوي بعنوان " صناعة المشيخة " فسرني ما فيها من الصراحة
والشجاعة في محاربة الباطل الذي انطلى أمره على كثير من الناس فبارك الله
فيه وزاده توفيقاً .
بيد أنني استنكرت قوله في التعليق : " وما يقوله القوالون من أنه (
المظلل بالغمام ) لا أصل له " .
ذلك لأن حديث تظليل الغمام للنبي عليه الصلاة والسلام ثابت في غير ما
كتاب من كتب السنة ، فكيف يصح أن يقال فيه : " لا أصل له " ؟ نعم لو قال
" لا يصح سنده " لكان أقرب إلى الصواب ، وأبعد عن الغلو في الخطاب ،
وإنما قلت " أقرب " لأن الصواب أن الحديث صحيح ، وإن ضعفه بعضهم ، لأنه
لم يأت عليه بحجة مقنعة وإليك البيان :
أخرج الترمذي (4/296 بشرح التحفة) وأبو نعيم في (دلائل النبوة 1/53)
والحاكم (2/615-616) وابن عساكر في (التاربخ 1/187/1 – 188/1) عن قراد
أبي نوح ، أنبأ يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه ،
قال : خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا علىالراهب . . . قلت : فذكر القصة وفيها
" فأقبل -صلى الله عليه وسلم- وعليه غمامة تظله ، قال : انظروا إليه
غمامة تظله ! فلما دنا على القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما
جلس مال فيء الشجية عليه ، قال انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه " الحديث
بطوله ، وفي آخر " وبعث معه أبو بكر بلالاً " .
قلت : فهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح :
أما أبو بكر بن أبي موسى فثقة بلا خلاف واحتج به الشيخان .
وأما يونس بن أبي إسحاق فاحتج به مسلم ، وفيه كلام لا يسقط حديثه عن رتبة
الاحجاج به ، وقد قال الذهبي فيه " صدوق ما فيه بأس " .
وأما قراد ، واسمه عبد الرحمن » فثقة أيضاً احتج به البخاري .
قلت : فتبين أن الإسناد صحيح من الوجهة الحديثية ، وقد تناقضت فيه آراء
العلماء ما بين مفرط ومفرط ، فهذا الحاكم يقول فيه : " صحيح على شرط
الشيخين " ! وقال الجزري " إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح أو أحدهما " .
وفي الجانب الآخر قول الذهبي في تعقيبه على الحاكم : " قلت : أظنه
موضوعاً ، فبعضه باطل " .
فهذا الغلو من القول لا يتفق في ميدان العلم والبحث الحر ، فأين الدليل
على وضعه بطوله ، ومن المعلوم أن الوضع إنما يحكم به إما من جهة السند ،
وهذا منفي هنا لما علمت من ثقة رجاله ، وإما من جهة متنه ، وهذا مفقود
أيضاً إذ غاية ما يمكن أن ينكر منه ما ذكوه الذهبي في ترجمة قراد أبي نوح
من " الميزان " فقال :
" أنكر ما له حديثه عن يونس بن أبي إسحاق . . . ومما يدل على أنه باطل
قوله : " وبعث معه أبو بكر بلالاً .. وبلال لم يكن بعد خلق ، وأبو بكر
كان صبياً " .
وقال في تاريخ الإسلام (1 / 39):
" تفرد به قراد ، واسمه عبد الرحمن بن غزوان ، ثقة احتج به البخاري
والنيسابوري (1) ، ورواه الناس عن قراد وحسنه الترمذي ، وهو حديث منكر
جداً ، وأين كان أبو بكر ؟! كان ابن عشر سنين فإنه أصغر من رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- بسنتين ونصف ، وأين كان بلال في هذا الوقت ، فإن
أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم يكن ولد بعد " .
وذكر نحو هذا وأبسط منه ابن القيم في فصل له في هذا الحديث مخطوط في
المكتبة الظاهرية بدمشق (عام – 5485 / 100 - 103) .
قلت : وهذا النقد للمتن لو سلم به لم يقتض الحكم على الحديث كله بالوضع ،
ذلك لأن رواته ثقات كما عرفت ، وحينثذ إنما يجوز أن يرد من حديث الثقة ما
ثبت خطؤه ويبقى باقيه على الأصل وهو القبول ، ويؤيده أن البزار لما روى
هذا الحديث لما روى هذا الحديث لم يسم " بلالاً " وإنما قال : " رجلاً "
وعلى هذا يطيح الإشكال الذي اعتمد عليه الذهبي في إنكاره للحديث ، ويدل
على أن تسمية الرجل بلالاً سهو من بعض الرواة ، وهذا لابد من الاعتراف به
، إذ الثقة قد يخطيء والجواد قد يكبو .
وتوسط آخرون فحسنوا الحديث كالترمذي ، فإنه قال : " حديث حسن غريب " .
وهذا هو الحق عندي لما عرفت من سلامة إسناده من قادح ؟ وما أشرنا إليه من
الكلام في بعض رواته لا ينافي القول بحسنه لا سيما إذ علمنا مجيئه من طرق
أخرى ، فقد قال السيوطي في " الخصائص الكبرى " (1 /84) :
" قال البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي.
قلت : ولها شواهد عدة سأوردها تقضي بصحتها ، إلا أن الذهبي ضعف الحديث
لقوله في آخره : " وبعث معه أبو بكر بلالاً " . . . وقد قال ابن حجر في "
الإصابة " : الحديث رجاله ثقات ، وليس فيه منكر سوى هذه اللفظة ، فتحمل
على أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر وهماً من أحد رواته " .
ثم ساق السيوطي الشواهد التي أشار إليها فليراجعها من شاء فإن الكلام
عليها مما يطيل البحث ، ولا مجال لذلك الآن .
بقي علينا أن ندفع شبهة أخرى على هذه المعجزة وقد تعلق بها الذهبي أيضاً
، فإنه قال عطفاً على قوله السابق في " التاريخ " :
وأيضاً فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة لأن ظل
الغمامة تقدم فيء الشجرة التي نزل تحته .
فأقول : إنما يصح هذا الاستشكال لو كان في الحديث التصريح بأن الفيء مال
مع بقاء الغمامة عليه -صلى الله عليه وسلم- ، وليس في الحديث شيء من هذا
، فمن الجائز أنه -صلى الله عليه وسلم- لما جلس عند الشجرة انكشفت
الغمامة عنه ووقعت الشمس عليه فمال فيء الشجرة عليه ليظله بدل الغمامة ،
وعليه فيكون قد ظهرت له -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة معجزتان
الأولى تظليل الغمامة له ، والأخرى ميل الفيء عليه ، وهو -صلى الله عليه
وسلم- أهل لذلك ولما هو أكثر منه بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- ،
نقول هذا وإن كنا لسنا والحمد لله من الذين ينسبون إليه -صلى الله عليه
وسلم- ما هب ودب مما لم يصح من المعجزات ، فإن فيما صح منها ما يكفي
ويشفي والحمد لله .
على أنه ينبغي أن لا ننسى أنه ليس في هذه القصة أن الغمامة كانت تظله
دائماً أينما سار وأينما نزل ، فإن هذا باطل قطعاً ، فهناك أحاديث كثيرة
صحيحة تصرح بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يستظل بالشجرة والخيام وغيرها
، وإنما وقعت هذه المعجزة في خروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى الشام .
وخلاصة القول : إن تظليل الغمامة له صلى الله عليه وآله وسلم له أصل في
السنة ، ولكن في ثبوته ما ألممت به من الخلاف ، والراجح عندي الصحة لما
سبق ، فمن اقتنع بذلك فبها ، وإلا فحسبه التوقف وترك الجزم بالضعف ، وأما
القول بأنه لا أصل له ، فلا أصل له .
محمد ناصر الدين الألباني
دمشق
18 ذي القعدة 1378 هـ
المصدر : مجلة المسلمون (6 / 793 – 797).
(1) يعني الإمام مسلماً صاحب الصحيح فإنه من نيسابور ، ولكن قرنه مع
البخاري هنا وهم فإن مسلماً لم يخرج له كما أفاده الذهبي نفسه في
الميزان.