قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
في سلسلة الأحاديث الصحيحة - الأحاديث رقم (158 - 159):
158- ( لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
أَنْ يُسْمِعَكُمْ [ من ] عَذَابَ الْقَبْرِ [ ما أسمعني ] ) .
قال الإمام أحمد حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِنَخْلٍ
لِبَنِي النَّجَّارِ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا قَبْرُ
رَجُلٍ دُفِنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فذكره ) .
وله شاهد من حديث جابر قال : ( دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا نَخْلًا لِبَنِي النَّجَّارِ فَسَمِعَ
أَصْوَاتَ رِجَالٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ تَعَوَّذُوا مِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ ) ، أخرجه أحمد بسند صحيح متصل علي شرط مسلم .
وله شاهد آخر من حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مرفوعاً , وهو :
159- ( إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا , فَلَوْلَا
أَنْ لَا تَدَافَنُوا , لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْه . قال زيد :ُ ثُمَّ أَقْبَلَ
عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ , فَقَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ
النَّارِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ فَقَالَ
تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ
مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالَ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ
فِتْنَةِ الدَّجَّالِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ
الدَّجَّالِ ) .
أخرجه مسلم من طريق ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ وَأَخْبَرَنَا سَعِيدٌ
الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَلَمْ أَشْهَدْهُ مِنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ
وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ
سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ – شك الجريري - فَقَالَ مَنْ
يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا قَالَ
فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ قَالَ مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ فَقَالَ ( فذكره
) .
وفي هذه الأحاديث فوائد كثيرة أذكر بعضها أو أهمها :
1- إثبات عذاب القبر , والأحاديث في ذلك متواترة , فلا مجال للشك فيه
بزعم أنها آحاد , ولو سلمنا أنها آحاد , فيجب الأخذ بها لأن القرآن يشهد
لها , قال تعالى (وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) غافر 45-46 , ولو سلمنا
أنه لا يوجد في القرآن ما يشهد لها , فهي وحدها كافية لإثبات هذه العقيدة
, والزعم بأن العقيدة لا تثبت بما صح من أحاديث الآحاد زعم باطل دخيل في
الإسلام , لم يقل به أحد من الأئمة الأعلام – كالأربعة وغيرهم- بل هو مما
جاء به بعض علماء الكلام بدون برهان من الله ولا سلطان , وقد كتبنا فصلاً
خاصاً في هذا الموضوع الخطير في كتاب لنا , أرجو أن أوفق لتبييضه ونشره
على الناس .
2- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع ما لا يسمع الناس ,
وهذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام , كما أنه كان يرى جبريل ويكلمه
والناس لا يرونه ولا يسمعون كلامه , فقد ثبت في البخاري وغيره أنه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوماً لعائشة رضي الله عنها : ( هذا
جبريل يقرئك السلام , فقالت : وعليه السلام يارسول الله ترى ما لا نرى )
.
ولكن خصوصياته عليه السلام إنما تثبت بالنص الصحيح , فلا تثبت بالنص
الضعيف ولا بالقياس والأهواء , والناس في هذه المسألة على طرفي نقيض ,
فمنهم من ينكر كثيراً من خصوصياته الثابتة بالإسانيد الصحيحة , إما لأنها
غير متواترة بزعمه , وإما لأنها غير معقولة لديه , ومنهم من يثبت له عليه
السلام ما لم يثبت , مثل قولهم : إنه أول المخلوقات , وإنه كان لا ظل له
في الأرض , وإنه إذا سار في الرمل , لا تؤثر قدمه فيه , بينما إذا داس
على الصخر علم عليه , وغير ذلك من الأباطيل .
والقول الوسط في ذلك أن يقال : إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بشر بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة , فلا يجوز أن يعطى له من
الصفات والخصوصيات إلا ما صح به النص في الكتاب والسنة , فإذا ثبت ذلك ,
وجب التسليم له , ولم يجز رده بفلسفة خاصة علمية أو عقلية زعموا .
ومن المؤسف أنه قد انتشر في العصر الحاضر انتشاراً مخيفاً رد الأحاديث
الصحيحة لأدنى شبهة ترد من بعض الناس , حتى ليكاد يقوم في النفس أنهم
يعاملون أحاديثه عليه السلام معاملة أحاديث غيره من البشر الذين ليسوا
معصومين , فهم يأخذون منها ما شاؤوا , ويدعون ما شاؤوا , ومن أولئك طائفة
ينتمون إلى العلم وبعضهم يتولى مناصب شرعية كبيرة , فإنا لله وإنا إليه
راجعون , ونسأله تعالى أن يحفظنا من شر الفريقين المبطلين والغالين .
3- إن سؤال الملكين في القبر حق ثابت , فيجب اعتقاده أيضاً , والأحاديث
فيه أيضاً متواترة .
4- إن فتنة الدجال فتنة عظيمة , ولذلك أمر بالاستعاذة من شرها في هذا
الحديث وفي أحاديث أخرى , حتى أمر بذلك في الصلاة قبل السلام , كما ثبت
في البخاري وغيره , وأحاديث الدجال كثيرة جداً , بل هي متواترة عند أهل
العلم بالسنة .
ولذلك جاء في كتب العقائد وجوب الإيمان بخروجه في آخر الزمان , كما جاء
فيها وجوب الإيمان بعذاب القبر وسؤال الملكين .
5- إن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام معذبون
بشركهم وكفرهم , وذلك يدل على أنهم ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم
دعوة نبي , خلافاً لما يظنه بعض المتأخرين إذ لو كانوا كذلك , لم يستحقوا
العذاب لقوله سبحانه وتعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولًا ) الإسراء 15 .
وقد قال النووي في شرح حديث مسلم : ( إن رجلاً قال : يارسول الله , أين
أبي ؟ قال في النار ... ) الحديث , قال النووي : فيه أن من مات على الكفر
فهو في النار , ولا تنفعه قرابة المقربين , وفيه أن من مات علي الفترة
على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار , وليس هذا
مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة , فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره
من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم .