المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، بقلم الدكتور محمد بن لطفي الصباغ

توفي العلامة المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بعد عصر يوم السبت الواقع في 22 جمادى الآخرة سنة 1420 هـ الموافق لـ 2 من أكتوبر سنة 1999م في عمان ، فهز نبأ وفاته الأوساط العلمية الإسلامية ، وحزن طلبة العلم عامة وطلبة علم الحديث خاصة لهذا المصاب الجلل ، ذلك لأنه -رحمه الله وغفر له- أعظم محدث في هذا العصر.

لقد وقف حياته على خدمة السنة المطهرة تعليماً وتأليفاً وتخريجاً وتحقيقاً ، وكان يدرس لك يوم دراسة الطالب الجد الذي سيدخل الامتحان في اليوم الآتي . . أجل ، لقد كان يعمل بدأب مستمر ، وجد لا يعرف الكلل ، ولم يكن يجد الملل إلى نفسه سبيلاً ، بل كان يجد راحته الكبرى في الدراسة والمطالعة والكتابة ، وكان يستفيد من وقته أعظم الاستفادة ، فلا تراه إلا قارئاً أو كاتباً أو محدثاً أو مناقشاً ، هذه الدراسة الممتدة نحواً من ستين سنة ، كانت موصولة بذكاء ممتاز وذاكرة جيدة ، وشخصية قوية ، وكان من ثمرة ذلك أن أضحى-كما قلنا- أكبر محدث في عصره .

شهد له بذلك العلماء المنصفون ، فقد سمعت العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلم بن باز -رحمه اهل - يقول فيه : " لا أعلم تحت قبة الفلك أعلم بحديث رسول اهلا -صلى الله عليه وسلم- من الشيخ ناصر " .


ولد الفقيد في مدينة " أشقودرة " سنة 1333 هـ (1914م) وكانت هذه المدينة عاصمة ألبانيا . . ولد من أسرة فقيرة متدينة يغلب عليها الطابع العلمي . . وكان والده فقيهاً حنفياً من أهل العلم ، ولما رأى أن الفساد الفكري والانسياق وراء الغرب بدأ يغزو بلده بتشجيع الحكومة ، قرر الهجرة إلى بلاد الشام ، فراراً بدينه ، وحفاظاً على عقيدة أولاده وأخلاقهم .

درج الفتى وهو دون التاسعة في مدينة دمشق ، وهو لا يعرف كلمة عربية ، وسحنته سحنة غريبة عن أهل البلد ، وكاذ من أسرة مهاجرة غريبة فقيرة ، ولم تتح له ظروفه الخاصة أن يتابع دراسته ، وأراد له أبوه أن يكوذ فقيهاً حنفياً ويدرس بعد أن ينتهي من عمله الذي يكسب منه ما يسد نفقات العيش .

فاشتغل في أول أمره نجاراً ، ثم اختار له أبوه أن يعمل ساعاتياً ، ولكن ذاك الفتى الذكي الطموح لم يقنع بما اختار له أبوه ، بل شرع يقرأ ويدرس في الأوقات التى يستطيع انتزاعها من عمله وراحته .

وجذبه علم الحديث ، فبدأ يشتغل بدراسة كتب التخريج وكتب الأحاديث الشائعة ، فاستفاد من تخريج الحافظ العراقي لأحاديث الإحياء الذي سماه مؤلفه " المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في كتاب إحياء علوم الدين من الأحاديث والآثار " . وكذلك كتاب " الموضوعات الكبرى " لملا علي القاري وغيرهما ومازال يواصل دراساته حتى وجد في نفسه القدرة على التأليف ، فبدأ يؤلف الرسائل الصغيرة ، واستمر في البحث والتنقيب في كتب الحديث المطبوعة والمخطوطة ، وأتيح له أن يتعاون مع دار نشر احتضنت مؤلفاته ، وطبعتها ونشرتها في الآفاق .

فعرف الناس فضله ، وانتفعوا من علمه ، وطبق ذكره كل بلاد المسلمين ، وليس من شك في أن أثره على طلاب العلم في عصره كان كبيراً ، وكان الرائد في مجال البحث عن صحة الحديث في هذا العصر ، واتجه إلى الأخذ بالحديث الصحيح والحسن ، والاستغناء بهما عن الحديث الضعيف فضلاً عن الموضوع ، لقد كان طلبة العلم يدرسون علم المصطلح في كتب النووي وابن كثير وابن الصلاح والسخاوي وابن حجر وغيرهم ، ولكنهم كانوا يتوقفون عند حفظ القواعد ، أما أن يعمد واحد منهم على الحكم على الحديث ، فهذا أمر لم يكن يدور لهم ببال .

إن خطته هذه واستحسان الناس لها ، جعل كثيراً ممن درس على المشايخ ينهجون هذا المنهج ، ويدعون ما كان عليه أشياخهم .

ثم ظهر في كل قطر من يسير على طريقة الألباني ، وكان بعضهم أهلاً لسلوك هذا الطريق ، وكثير منهم لم يكن كذلك ، بل تسرع وتعجل قبل أن يستكمل الآلة .

وقد ضاق الشيخ الألباني -رحمه اهلت- بهؤلاء الأخيرين ، وكان يشكو منهم مر الشكوى ، وقد رد على بعضهم في بعض كتاباته .

ومهما يكن من أمر فإن إساءة بعض طلبة العلم استخدام المنهج الصحيح لا تدخل الضيم على المنهج ، بل يكون النقد موجهاً لهؤلاء المسيئين .

وسنرى في عرض أحداث حياته فضله في هذه الريادة وصبره على ما لاقاه في سبيل ذلك .

لقد دفح الحسد والقصور والجهل كثيراً من الذين يتزيون بزي العلماء إلى محاربته والتشكيك بعلمه وفضله ، ولكن الزبد يذهب جفاء ، والنافع يفرض نفسه على الناس .

والحق أن الشيخ الألباني -رحمه الله- كان يتصف بحدة شديدة ، كان يواجه بها المخالفين له من علماء قدماء ومحدثين ، ولا شك في أن هذه الحدة زادت من خصومه .

ولكن هذه الحدة لم تكن وقفاً على الشيخ ، بل كنت تلمسها في أكثر العلماء الذين يقل اختلاطهم بالناس ، ويعيشون بين الكتب والمثل العليا ، فإذا رأوا من الناس ما لا يعجبهم انفعلت نفوسهم بالغضب الشديد ، وقابلوا الانحراف بشدة وحدة .

لقد كان منهج الشيخ الألباني رحمه الهإ العمل بحديث رسول اهلم -صلى الله عليه وسلم- الصحيح والحسن الذي عمل به بعض الأئمة ولو خالف أئمة آخرين .

وهذا منهج جديد على الناس ، وله فيه -دون شك- فضل الريادة ، ولقي في سبيل ذلك ما لقي ، ولكنه مضى في طريقه لا يبالي بالهجمة الشرسة التي كان يقابله بها المتعصبون المذهبيون ، والصوفيون المخرفون ، والعلمانيون.

ولكن كان هناك فئة من العلماء السلفيين الدمشقيين الذين يكبرونه في السن ، وهم على طريقة السلف ، كانوا يشجعونه ويحضونه على الثبات على موقفه ، ومنهم أستاذنا العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ، والشيخ عبد الفتاح الإمام ، والشيخ حامد التقي ، والشيخ توفيق البزرة -رحمهم اهلو- .

وكانت للشيخ الألباني دروس يعقدها في دمشق ، ثم عمل أستاذاً لمادة الحديث في الجامعة الإسلامية ثلاث سنوات ، وقد ترك أثراً طيباً محموداً ، ولما رجع إلى الشام تفرغ للتأليف والدراسة ، وكان مع ذلك يقوم برحلات إلى المحافظات السورية ، يلقي في كل منها دروساً ينشر فيها عقيدة السلف الصافي ، ويقرر فيها الحكم الشرعي في العبادات ، والمعاملات على ضوء السنة ، ثم كانت هجرته إلى عمان وكان له نشاط علمي وتأليفي ودعوي ، وقد ترك من المؤلفات عدداً كبيراً يجاوز المائة ، رحمه اهلل رحمة واسعة ، وغفر لنا وله .

المصدر: مجلة الدعوة (1715 / 27).