خطبة: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، د. إبراهيم الحقيل
خطبة: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، للشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهَدْي هَدْي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وشر الأمور مُحْدَثَاتُها، وكل مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّار.
أيها المؤمنون:
من عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده: أن جعل ميزان التفاضل عنده ليس بقدر ما يملك العبد من مالٍ أو جاه، أو ما يتَّصل به من حَسَبٍ ونَسَب؛ فقارون ما أغنى عنه ماله، وفرعون ما نفعه سلطانه، وهارون ما سرَّته وَزَارَتُه، وقريش كانت أوسط القبائل وأعزَّها، وكثيرٌ من سادتها وكبرائها كان خيرًا منهم بلالٌ الحبشي، وصُهَيْب الرُّومي، وسَلْمان الفارسي؛ لأن الميزان ميزان التقوى، وهؤلاء الموالي شرفوا بالإيمان، بينما تقاعس السادة والأعيان من قريش عن الإسلام.
وكثيرٌ منَ الموالي وأبناء الموالي صاروا سادةً بالعلم، في الوقت الذي أصبح كثيرٌ منَ السَّادة لا يُذكَرون.

قال ابن أبي الزِّناد رحمه الله تعالى: "كان أهل المدينة يكرهون اتِّخاذ أمَّهات الأولاد، حتى نشأ فيهم الغرُّ السَّادة: علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله؛ ففاقوا أهل المدينة علمًا وتقًى وعبادةً ووَرَعًا؛ فرغب الناس حينئذٍ في السَّراري"[1].

إنَّ العلم والتقوى يصبح بهما الوضيع رفيعًا، والخامل مشهورًا، والضعيف قويًّا؛ لحاجة الناس إلى أهل العلم؛ ولأنَّ الله تعالى يحبُّ المتَّقين، ويحبُّ العلماء العاملين، فيرفعهم ويعزُّهم، ويجعل حاجة الناس إليهم.
رأى رجلٌ الحسنَ البصريَّ والناس حوله؛ فقال: "مَنْ هذا؟ فقيل له: مولًى سادَ. قال: بمَ سادَ؟ فقيل له: احتاج النَّاسُ إلى عِلْمِه، ولمْ يَحْتَجْ هو إلى دنياهم".
ومن عجيب تدبير الله تعالى وحكمته في هذا الشأن: أن الإمام البخاري الذي جمع كتابًا هو أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى، والذي لو لم يكن من مآثر أهل بُخارى إلاَّ أن أنجبت هذا الرجل، ولو لم يكن من آثاره إلاَّ هذا الكتاب؛ لكفى به شرفًا له ولأسرته ولأهل بخارى كلِّهم - العجيب أن جدَّ والده كان أعجميًّا مات على الكفر! ما بلغه الإسلام، ثم يكون من سلالة هذا الأعجميِّ الكافر إمامٌ حفظ الله به الدين، وحمى به السُّنَّة، وقد عجزت كثيرٌ من الأُسَر العربية؛ بل وأعرق القبائل العربية أن تخرِج إمامًا كهذا الإمام المولى الأعجمي، الذي تدرَّس كتبه في الجامعات الإسلامية، والذي لا يزال ذِكْرُه في المسلمين، وسيستمر ما استمرَّت سُنَّة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم محفوظة.

وقلَّ أن تجد كتابًا في الشريعة استشهد صاحبه بنصوصٍ من السُّنَّة - إلا واسم هذا الإمام مذيَّلٌ عقب حديث أو أحاديث منه، وذلك فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
يُذكر هذا أيها الإخوة وأمَّة الإسلام تحتسب على الله تعالى وفاة الإمام المحدِّث، صاحب التصانيف النافعة المشهورة: محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، وأسكنه الفردوس الأعلى من جنَّته.

لقد نشأ كما نشأ كثيرٌ من العلماء فقيرًا معدمًا، وأشبهت حياته حياة الإمام البخاري من جهة الاهتمام بالحديث، ومن جهة الأصل الأعجمي في كلا الاثنين؛ فالبخاريُّ من بُخارى، والألبانيُّ من ألبانيا، وكلتاهما غير عربيَّتَيْن.

يقول الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: "إن نِعَم الله عليَّ كثـيرةٌ، لا أُحصي لها عدًّا، ولعلَّ من أهمها اثنتين: هجرة والدي إلى الشام، ثم تعليمه إيَّايَ مهنته في إصلاح الساعات. أما الأولى: فقد يَسَّرَتْ لي تعلم العربية، ولو ظللنا في ألبانيا؛ لما توقَّعْتُ أن أتعلَّم منها حرفًا، ولا سبيل إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم إلاَّ عن طريق العربية، وأما الثانية: فقد قيَّضَتْ لي فراغًا من الوقت أملؤه بطلب العلم، فأتاحت لي فرص التجارة، التي لو حاولت التَّدريب عليها أولاً؛ لالتَهَمَتْ وقتي كلَّه، وبالتالي لسدَّت بوجهي سُبُلَ العلم الذي لابدَّ لطالبه منَ التفرُّغ"[2].

وكان سبب هجرة والده من ألبانيا الأعجمية إلى بلاد الشام العربية هي: أن حاكم ألبانيا آنذاك أراد عَلْمَنَة البلاد بالقوَّة، وأمر بنزع الحجاب عن النِّساء، واتِّباع الغربيِّين في لبسهم، وجميع شؤونهم؛ فكانت هذه الهجرة خيرًا للشيخ؛ إذ تعلَّم علوم السُّنة النبوية، ولم تكن كُتُبها موجودةٌ في مكتبة والده الممتلئة بكتب فقهاء الحنفية، فما كان منه إلا أن لزم المكتبة الظَّاهرية في الجامع الأُمَوي، يقضي فيها كلَّ يومٍ ما بين ست إلى عشر ساعات، ثم زاد اهتمامه وشغفه بالمطالعة والبحث، حتى كان يقضي فيها ثِنْتَي عشرة ساعة، يدخلها قبل دخول الموظفين، ويبقى فيها إلى صلاة العشاء، وكم من مرَّةٍ قضى ليله كلُّه فيها، أغلقوا عليه الباب وأتوه في الصباح!!
وهذه النِّهْمة في الطَّلب والبحث تذكِّرُنا بفعل السَّلف الصالح - رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. ولم يكتفِ الشيخ - رحمه الله - بذلك؛ بل أزعجه أنه لا يستطيع المطالعة والبحث إلاَّ في أوقات عمل المكتبة، وليس عنده منَ المال ما يشتري به الكتب؛ فاتَّفق مع صاحب كُبريات المكتبات التجارية في دمشق على أن يستعير منه بعض الكتاب، ويرجعها حال انتهائه منها، وإن جاء مَنْ يرغب شرائها أعادها فورًا، وبهذا صار يقضي جلَّ وقته مع كتب الحديث وعلومه[3].

ما منعه الفقر من طلب العلم، ولا ردَّه عدم امتلاكه للكتب عن مطالعتها؛ بل اخترع الطرق والأساليب التي جعلته لصيقًا بالكتب.

ومن عجيب أخباره رحمه الله تعالى: أنه ما كان يجد قيمة الورق الذي يكتب فيه أبحاثه؛ فكان يطوف في الشوارع والأزقَّة؛ يبحث عن الأوراق السَّاقطة فيها هنا وهناك؛ ليكتب على ظهرها؛ لأن وجه الورقة عادةً يكون مليئًا بالكتابة! وقال رحمه الله تعالى: "كنت أشتري الأوراق بالوزن لرخصه"[4].
الله أكبر! همـة عالية، وشغفٌ بطلب العلم وتدوينه، ما قعد واعتذر بالفقر، ولا ضيَّع وقته كما كان يفعل كثير من أقرانه؛ بل جدَّ في الطَّلب، واجتهد وثابر؛ حتى كان حصيلة ذلك عشرات الكتب النافعة في تخريج حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وخدمته، وتيسير وصول الطلاب إليه بصنع الفهارس المتعدِّدة، والذبِّ عن السُّنَّة النبويَّة، والوقوف في وجوه المشكِّكين فيها، وتنقية الكتب من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبيان المقبول والمردود من الحديث، ومَنْ ذبَّ عن سنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ذبَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة.

رحم الله الشيخ، وعفا عنه، وجَبَر مُصاب المسلمين فيه، وجمعنا به في دار كرامته؛ إنه سميعٌ مجيبٌ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ [الرعد: 41].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنْ سار على نَهجهم واقتفى أثَرَهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، فما أحوجنا إلى التزام التقوى في زمنٍ كَثُرَتْ فيه الفواجع والزَّلازل، وكَثُرَ فيه موت العلماء والكُبراء؛ وذلك حقيقٌ بالاعتبار، واليقين بأن وعد الله حق، وأن الساعة آتيةٌ لا رَيْب فيها، وأن الله يبعث مَنْ في القبور.
أيها الإخوة:
ما من إمامٍ من أئمة أهل السُّنة والجماعة إلا وله شانئون ومُبغضون من أهل الزِّيغ والبِدَع والضَّلالات، والألبانيُّ رحمه الله تعالى ليس بِدْعًا من ذلك؛ إذ سَلَقَتْه ألسنٌ حِداد، وكتبت فيه أقلام حراب؛ سلَّها ثم سنَّها بعض المبتدِعة، وبعض المرتزَقة، بتهمٍ تشي بما في صدروهم من الحنق والحسد والغيظ. وما ضرَّه ذلك، ولا أنقص قدره عند أهل الحقِّ، وعادت سهام الناصلين عليهم، وكان ذمُّهم له ذمًّا لهم؛ إذ كُشفت حقائقهم، وأُظهرت بواطنهم، ومَنْ يجترئ على هذا الإمام المحدِّث وهو الذي انتهج منهج السَّلف الصَّالح عن قناعةٍ وإدراك، وبحثٍ ودِراية، ولم يأخذه كابرًا عن كابر؟!

إنه رحمه الله تعالى نشأ وعاش في بيئة فَشَتْ فيها البدعة، وطُمست أنوار السُّنة، وانتشرت الفِرَق الباطنيَّة، والأحزاب الكُفْرِيَّة؛ فحمل لواء السُّنة، وحارب البِدعة، ولم يكن معه معينٌ ولا نصيرٌ سوى الله تعالى؛ حتى أُدخل السجن غير مرة في سبيل دعوته إلى التوحيد الصحيح، والتزام السُّنة.

عاش في بيئةٍ فقهاؤها من متعصِّبة المذاهب، يقدِّمون أقوال الرِّجال على حديث سيد الأنام - عليه الصَّلاة والسَّلام - إلا مَنْ رحم الله - وقليلٌ ما هم - فأخذ يدعو إلى السُّنة، ويُناظر ويُجادل من أجل ذلك؛ حتى اتَّهموه - بسبب دعوته إلى التوحيد الصَّحيح والسُّنة المطهَّرة - بأنه وَهَّابي، وبأنه سلفيٌّ جامدٌ، وأُخرج من بلاد إلى بلادٍ أخرى في سبيل ذلك، وما فتَّ ذلك في عَضُدِه؛ بل بقيَ قوَّالاً بالحقِّ غير هيَّاب حتى وفاته رحمه الله تعالى.
وما قيل عن حدَّته على الخصوم، وبعض اجتهاداته الخاطئة في الفقه والحديث؛ فذلك مغمورٌ في بحر حسناته رحمه الله تعالى ويكفي أنه قضى عمره في مشروعه الأكبر: (تقريب السُّنة بين يَدَي الأمَّة)، مع دعوته إلى التزام الدَّليل والأَخْذ به، ونَبْذ التَّقليد، ومحاربته للبِدعة وأهلها، ونَبْذه للحزبيَّات والتعصُّبات الجاهلية، ورحم الله الذهبيُّ إذ يقول: "ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه، لما سَلِمَ معنا لا ابن نَصْرٍ ولا ابن مَنْدَه، ولا مَنْ هو أكبر منهما، والله هو الهادي الخَلْق إلى الحقِّ، وهو أرحم الراحمين؛ فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة"[5].
ويقول ابن القيِّم رحمه الله تعالى: "ومَنْ له علمٌ بالشرع والواقع - يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح، وآثارٌ حسنة، وهو منَ الإسلام وأهله بمكان؛ قد تكون منه الهفوة والزلَّة، هو فيها معذورٌ؛ بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتَّبع، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته من قلوب المسلمين"[6].
إن الله وملائكته يصلون على النبي.

===

[1] سير أعلام النبلاء (4 /460).
[2] "حياة الألباني وآثاره، وثناء العلماء عليه" لمحمد بن إبراهيم الشيباني (48).
[3] بتصرف غير يسير من المصدر السابق (51 - 52).
[4] انظر: المصدر السابق (43).
[5] سير أعلام النبلاء (14 /40).
[6] إعلام الموقعين (3 /483).

المصدر: موقع الألوكة
http://alukah.net